قال في "الفتح": وقوله: "في الصدقة": يردّ قول من قال: إن ذلك كان في الخراج. وحكى البيهقيّ أن بعضهم قال فيه: "من الجزية" بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن المشهور الأول. وقد رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس: "أن معاذًا كان يأخذ العَرْض في الصدقة".
وأجاب الإسماعيليّ باحتمال أن يكون المعنى ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذُّرَة الذي آخذه شراءً بما آخذه، فيكون بقبضه قد بلغ محلّه، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم، وأنفع للآخذ. قال: ويؤيّده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم، فيردّها على فقرائهم.
وأجيب بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولّى قسمتها.
وقد احتجّ به من يُجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافية أيضًا. وقيل في الجواب عن قصّة معاذ: إنها اجتهاد منه، فلا حجّة فيها. وفيه نظر؛ لأنه كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بيّن له النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لما أرسله إلى اليمن ما يَصنَعُ.
وقيل: كانت تلك واقعةَ حال، لا دلالة فيها؛ لاحتمال أن يكون عَلِمَ بأهل المدينة حاجة لذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وفي قوله: واقعة حال نظر لا يخفى، إذ الظاهر أنها تدلّ على جواز نقلها، إذا دعت الحاجة إليه، وسيأتي تمام البحث في ذلك في بابه - ٤٦/ ٢٥٢٢ - إن شاء اللَّه تعالى.
وقال القاضي عبد الوهّاب المالكيّ: كانوا يُطلقون على الجزية اسمَ الصدقة، فلعلّ هذا منها.
وتُعُقّب بقوله: "مكان الشعير والذرة"، وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير، ولا ذُرَة، إلا من النقدين (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنّ أرجح الأقوال في المسألة ما ذهب إليه البخاريّ، وهو جواز أخذ الْعَرْض بدل الصدقة إن رأى الْمُصدِّق ذلك خيرًا، وأنفعَ للفقراء، كما عَمِل به معاذ - رضي اللَّه عنه -. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وهو قول العلماء كافّة، خلافًا للشافعيّ في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية. وتعقّب ابن دقيق العيد بأن القصّة
(١) - راجع "الفتح" ج ٤ ص ٦٨ - ٦٩.