أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر، وبين ما يجب فيه نصفه، فذَكَرَ النوعين مُفرِّقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبيّنه نصًّا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النّصّ الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دلّ عليه البتّة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاصّ المحكم المبيّن، كبيان سائر العمومات بما يخصّصها من النصوص انتهى.
قال صاحب "المرعاة": ذهب جمهور الأصوليين، وعامّتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح، وهو الحقّ، واحتجّ لذلك في "المحصول" بأن العموم، وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخصّ من العموم، فوجب تقديمه على العموم.
قال الشوكانيّ: وأيضًا يدلّ على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- باتباع نبيّه - صلى اللَّه عليه وسلم - من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبًا، وإذا عارضه عموم قرآنيّ كان سلوك طريقة الجمع ببناء العامّ على الخاصّ متحتّمًا، ودلالة العامّ على أفراده ظنيّةٌ، لا قطعيّة، فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية انتهى.
ثم قال ابن القيّم: ويا للَّه العجب، كيف يخصّون عموم القرآن والسنّة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفًا في الاحتجاج به، وهو محلّ اشتباه، واضطرابٍ، إذ ما من قياس، إلا وتمكن معارضته بقياس مثله، أو دونه، أو أقوى منه، بخلاف السنّة الصحيحة الصريحة، فإنها لا يُعارضها إلا سنّةٌ ناسخةٌ معلومة التأخّر والمخالفة.
ثم يقال: إذا خصّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النصّ، فهلاّ خصصتموه بقوله:"لا زكاة في حبّ، ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق"، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس، فهلاّ خصّصتم هذا العامّ بالقياس الجليّ الذي هو من أجلى القياس، وأصحّه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة، فإن الزكاة الخاصّة لم يشرعها اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا رسوله - صلى اللَّه عليه وسلم - في مال إلا وجعل له نصابًا، كالمواشي، والذهب، والفضّة. ويقال: أيضًا: هلاّ أوجبتم الزكاة في قليل مال، وكثيره؛ عملاً بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: ١٠٣]، وبقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ما من صاحب إبل، ولا بقرٍ، لا يؤدّي زكاتها، إلا بُطح له بقاعٍ قَرْقَرٍ … "، وبقوله:"ما من صاحب ذهب، ولا فضّة، لا يؤدّي زكاتها إلا صُفّحتَ له يوم القيامة صفائح من نار … "، وهلاّ كان هذا العموم عندكم مقدّمًا على أحاديث النصب