والظاهر أنه أراد سوق المدينة. وفي رواية أبي داود:" جاء سهل بن أبي حثْمَة إلى مجلسنا، فقال: أمرنا رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، إذا خرصتم، فَجَذُّوا … (فَقَالَ:) سهل - رضي اللَّه عنه - (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إِذَا خَرَصْتُمْ) من باب قَتَلَ: أي قدّرتم، وحَزَرْتم أيّها السُّعَاة، والْمُصدِّقُون (فَخُذُوا) أمر من الأخذ -بالخاء، والذال المعجمتين-: أي خُذُوا زكاة المخروص، إن سَلِمَ من الآفة.
والخرص: تقدير ما على النخل من الرُّطَب تمرًا، وما على الكرم من العنب زبيبًا؛ ليُعرَف مقدار عُشره، ثّم يُخلَّى بينه وبين مالكه، ويؤخذ ذلك المقدار وقت قطع الثمار.
وفائدته التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، وهو جائز عند الجمهور، خلافًا للحنفيّة؛ لإفضائه إلى الربا، وحملوا أحاديث الخرص على أنها كانت قبل تحريم الربا. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
ووقِع في بعض نسخ أبي داود "فَجَذُّو" -بالجيم، والذال المعجمة بصيغة الماضي-: أي فقَطَعُوا، وفي بعضها "فَجَدُّوا" -بالدّال المهملة-وهو القطع أيضًا، وعلى هاتين النسختين جزاء الشرط محذوف: أي إذا خَرَصتم، ثم قَطَع أرباب النخل ثمرها، فخذوا زكاة المخروص. وقيل:" جُذُّوا" -بضمّ الجيم، بصيغة الأمر، وهو جزاء الشرط، ويكون أمرًا لأرباب النخل: أي إذا قدّر العامل الثمارَ، وعرفتم حقّ الفقراء، فاقطعوا ما شئتم، وهو أمر إباحة.
(وَدَعُوا) أي اتركوا (الثُّلُثَ) -بضمّ اللام، وسكونها- يحتمل أن يكون المراد: اتركوا ثلث الزكاة ليتصدّق به ربّ المال بنفسه على أقاربه، وجيرانه، فلا يَغرَم لهم من ماله شيئًا.
ويحتمل أن يكون المراد: اتركوا الثلث من نفس الثمرة، فلا يؤخذ عليه زكاة، رأفةً بأرباب الأموال، فإنه يكون منه الساقطة، والهالكة، وما يأكله الطير والناس، فلو أخذت الزكاة على جميع المال أضرّ بربّه. وكان عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه عنه - يأمر الخرّاص بذلك.
قال في "الفتح": وقال بظاهره الليث، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم. وفَهِمَ أبو عُبيدة في "كتاب الأموال" أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه، فقال: يُترك قدرُ احتياجهم. وقال مالك، وسفيان: لا يُترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعيّ. قال ابن العربي: والمتحصّل من صحيح النظر أن يُعمل بالحديث، وهو قدر المؤونة، ولقد جرّبناه، فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رُطَبًا انتهى (١).
وقال ابن قُدامة في "المغني": على الخارص أن يترك في الخرص الثلث، أو الربع؛ توسعةً على أرباب الأموال؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، وُيطعمون