قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- كلام نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ ما عليه جمهور أهل العلم، من أن صدقة الفطر فريضة، كفرض زكاة المال، وغيرها من فرائض اللَّه تعالى، ولا ينافي هذا تفاوت درجات فرضيّتها فيما بينها، فإن الفرائض تختلف، فمنها ما يُكفّر جاحده، ومنها ما ليس كذلك، كما بينه -رحمه اللَّه تعالى- آنفًا، ولكن يجمع الكلّ كونها مما فرضه اللَّه تعالى، يجب اعتقاده، والعمل به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): لم يُقَيَّد في الحديث افتراض زكاة الفطر باليسار، لكن لا بدّ من القدرة على ذلك؛ لما عُلِم من القواعد العامّة، وقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا شيء على من لا شيء له. انتهى.
واختلف العلماء في ضابط ذلك، فذكر الشافعيّة، والحنابلة أنّ ضابط ذلك أن يملك فاضلاً عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد، ويومه ما يؤدي في زكاة الفطر.
وحكاه العبدريّ عن أبي هريرة، وعطاء، والشعبيّ، وابن سيرين، وأبي العالية، والزهريّ، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وأبي ثور. انتهى.
وغاير ابن المنذر في ذلك بين مذهبي مالك، والشافعيّ، فقال: كان أبو هريرة يراه على الغنيّ، والفقير، وبه قال أبو العالية، والشعبيّ، وعطاء، وابن سيرين، ومالك، وأبو ثور. وقال ابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد: إذا فضل عن قوت المرء، وقوت من يجب عليه أن يقوته مقدارُ زكاة الفطر، فعليه أن يؤدّي انتهى.
قال وليّ الدين: وما حكاه ابن المنذر أقرب إلى مذهب مالك، فإن ابن شاس قال في "الجواهر": لا زكاة على معسر، وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع، ولا وجد من يُسلفه إيّاه. انتهى.
فقوله: ولا من يُسلفه إياه لا يُوافق عليه الشافعيّ، وأحمد، ثم قال ابن شاس: وقيل: هو الذي يُجحِف به في معاشه إخراجها. وقيل: من يَحلّ له أخذها، ثم قيل فيمن يحلّ له أخذها: إنه الذي يحلّ له أخذ الزكاة. وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك انتهى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من ملك نصابًا من الذهب أو الفضّة، أو ما قيمته قيمة نصاب، فاضلاً عن مسكنه، وأثاثه الذي لا بد منه. قال العبدريّ: ولا يُحفَظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة. وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه قال: من كان له خمسون درهمًا فهو غنيّ، وإلا فهو فقير. قال: وقال غيره: أربعون درهمًا انتهى.