للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال أبو عمر: اختلف المتأخّرون من أصحاب مالك في وجوبها، فقال بعضهم: هي سنّةٌ مؤكّدة. وقال بعضهم: هي فرضٌ واجبٌ. وممن ذهب إلى هذا أصبغ بن الفَرَج.

واختلف أصحاب داود في ذلك على قولين أيضًا: أحدهما: أنها فرض واجبٌ.

والآخر أنها سنّةٌ مؤكّدةٌ. وسائر العلماء على أنها واجبةٌ. انتهى كلام ابن عبد البرّ في "الاستذكار" (١).

وقال في "التمهيد": وأما قول ابن عمر في هذا الحديث: "فرضَ الخ" فإنه يحتمل وجهين: أحدهما -وهو الأظهر- فرض بمعنى أوجب، والآخر فرض بمعنى قدّر من المقدار، كما تقول: فرض القاضي نفقة اليتيم: أي قدّرها، وعرف مقدارها.

والذي أذهبُ إليه أن لا يزال قوله: فَرَضَ على (٢) معنى الإيجاب، إلا بدليل الإجماع، وذلك معدوم في هذا الموضع. وقد فَهِمَ المسلمون من قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: ١١].، ونحو ذلك أنه شيء أوجبه، وقدّره، وقضى به، وقال الجميع للشيء الذي أوجبه اللَّه هذا فرض، وما أوجبه رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فعن اللَّه أوجبه، وقد فرض اللَّه طاعته، وحذّر مخالفته، ففَرْضُ اللَّه، وفَرْضُ رسوله سواء، إلا أن يقوم الدليل على الفرق بين شيء من ذلك، فيسلّم للدليل الذي لا مدفع فيه.

قال: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجبٌ أيضًا؛ لأن القول بأنها غير واجبة شذوذ، أو ضرب من الشذوذ.

قال: ولعلّ جاهلاً يقول: إن زكاة الفطر لو كانت فريضة، لكُفِّرَ من قال: إنها ليست بفرض، كما لو قال في زكاة المال المفروضة، أو في الصلاة المفروضة: إنها ليست بفرض، كُفِّرَ.

فالجواب عن هذا ومثله أنّ ما ثبت فرضه من جهة الإجماع الذي يَقطَعُ العذر، كُفِّرَ دافعه؛ لأنه لا عذر له فيه. وكلّ فرض ثبت بدليل، لم يُكَفَّر صاحبه، ولكنه يُجَهَّل، ويُخطَّأُ، فإن تمادى بعد البيان له هُجِر، وإن لم يُبيّن له عُذِر بالتأويل، ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليله، وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة، ونكاح السّرّ، والصلاة بغير قراءة، وبيع الدرهم بالدرهمين يدًا بيد … إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة، والزكاة، والحجّ، وسائر الأحكام، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليل شيء من ذلك؛ لأن الدليل في ذلك يوجب العمل، ولا يَقطع العذر، والأمر في هذا واضح لمن فهم. انتهى كلام ابن عبد البرّ (٣).


(١) - "الاستذكار" ج ٩ ص ٣٤٨ - ٣٥٠.
(٢) - هكذا في نسخة "التمهيد": "على، والظاهر أنها "عن".
(٣) - "التمهيد" ج ١٤ ص ٣٢٣ - ٣٢٤.