ذهب الجمهور إلى إجزائه، إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: إن الواجب منه صاع، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وهي رواية عن أبي حنيفة، وهو الحقّ، لحديث الباب. وفي رواية عنه نصف صاع، كالقَمْح، وهي رواية ضعيفة، لمخالفتها النصوص الصحيحة.
وذهب الظاهرية إلى أن الزبيب لا يجزئ، بل الواجب هو التمر أو الشعير، وأجاب ابن حزم عن حديث الباب بوجهين:
أحدهما أنه غير مسند -أي مرفوع إلى النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لأنه ليس في شيء من طرقه أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - علم بذلك، فأقرّه.
والثاني: أنه مُضطرَب فيه، فإن في بعض طرقه إثبات الزبيب، وفي بعضها نفيه، وفي بعضها ذكر الدقيق، والسُّلْت. وقد تقدّم الجواب عن الوجه الأول. وأما الثاني، فقد أجاب عنه العلاّمة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- في تعليقه على "المحلّى" جـ ٦ ص ١٢٥ - بأن هذا ليس من الاضطراب في شيء، بل إن بعض الرواة يُطيل، وبعضهم يختصر، ومنهم من يذكر شيئًا، ويسهو عن غيره، وزيادة الثقة مقبولة، فالواجب جمع كلّ ما ورد في الروايات "الصحيحة" إذ لا تعارض بينها أصلًا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العلاّمة أحمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن الحديث صحيح، وأن الأرجح ما قاله الجمهور، من إجزاء الزبيب في صدقة الفطر، وأن مقداره صاع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تعيين المراد بـ "الطعام" في هذا الحديث:
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المعالم" جـ ٢ ص ٥٠ - ٥١ - : زعم بعض أهل العلم أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه عندهم اسمٌ خاصٌ للبرّ. قال: ويدلّ على صحة ذلك أنه ذكَرَ في الخبر الشعيرَ، والأقطَ، والتمر، والزبيب، وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو، ولم يَذكُر الحنطةَ، وكانت أغلاها، وأفضلها كلّها، فلولا أنه أرادها بقوله:"صاعا من طعام" لكان يجري ذكرها عند التفصيل، كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات، ولا سيّما حيث عُطفت عليها بحرف "أو" الفاصلة (١).
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": وقد كانت لفظة "الطعام" تستعمل في البرّ عند الإطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فُهِم منه سوق البرّ، وإذا غلب
(١) - راجع "المعالم" ج ٢ ص ٢١٨ وهو منقول ببعض تصرّف.