للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت الأخبار أيضًا بأنها سفلى، سواء أخذت، أم لا، وهذا موافق لكيفيّة الإعطاء والأخذ غالبًا, وللمقابلة بين العلو والسفل المشتقّ منهما.

(ثالثها): يد المتعفّف عن الأخذ، ولو بعد أن تَمُدّ إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُلْيا علوًّا معنويًّا.

(رابعها): يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطّرد، فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يُحمل كلام من أطلق كونها عليا.

قال ابن حبّان في "صحيحه": عندي أن اليد المتصدّقة أفضل من السائلة، لا الآخذة دون السؤال؛ إذ محالٌ أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون (١) من فرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرّب إلى بارئه متنفّلًا فيه، وربما كان المعطي في إتيأنه ذلك أقلّ تحصيلًا في الأسباب من الذي أتى بما أبيح له، وربما كان هذا الآخذ لِمَا أُبيح له أفضل، وأورع من الذي يعطي، فلما استحال هذا على الإطلاق دون التحصيل بالتفضيل، صحّ أن معناه أن المتصدّق أفضل من الذي يسألها انتهى (٢).

وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة، ولم يوافق عليه.

وأطلق آخرون من المتصوّفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا. ونقل ابن قتيبة في "غريب الحديث" ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجّون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى مِن فوقُ هو الذي كان رقيقًا، فأُعتق، والمولى من أسفلُ هو السيّد الذي أعتقه انتهى.

قال الحافظ: وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلّامة جمال الدين ابن نُباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنّ المعنى أن العطيّة الجزيلة خيرٌ من العطيّة القليلة. قال: وهذا حثّ على المكارم بأوجز لفظٍ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: "ما أبقت غنى"، أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدّق بألف، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمرّ؛ إذ فيمن يأخذ من هو خيرٌ عند اللَّه ممن يعطي.

قال الحافظ: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في "مسنده" من طريق عمر بن


(١) - عبارة ابن حبان "أحسن" وما هنا من "الفتح"، وهو الظاهر.
(٢) - "صحيح ابن حبّان" ج ٨ ص ١٥٠ - ١٥١ بتحقيق شعيب الأرنؤوط.