للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

عند الناس، فتحرم عليه حينئذ الزكاة، دون التطوّع.

ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحلّ لغنيّ، إلا ما ذُكر في حديث أبي سعيد الخدريّ (١).

واختلفوا في صدقة التطوّع، هل تحلّ للغنيّ؟، فمنهم من يرى التنزّه عنها، ومنهم من لم ير بها بأسًا، إذا جاءت من غير مسألة؛ لقوله - صلى اللَّه عليه وسلم - لعمر: "ما جاءك من غير مسألة، فكله، وتموّله، فإنما هو رزق ساقه اللَّه إليك". مع إجماعهم على أن السؤال لا يحلّ لغنيّ معروف الغنى.

وأكثر من كره صدقة التطوّع إنما كرهها من أجل الامتنان، ورأوا التنزّه عن التطوّع من الصدقات؛ لما يلحق قابضها من ذلّ النفس، والخضوع لمعطيها، ونزعوا، أو بعضهم بالحديث: "إن الصدقة أوساخ الناس، يغسلونها عنهم"، فرأوا التنزّه عنها، ولم يُجيزوا أخذها لمن استغنى عنها بالكفاف، ما لم يضطرّ إليها، حتى قال سفيان - رحمه اللَّه تعالى -: جوائز السلطان أحبّ إليّ من صلات الإخوان؛ لأنهم يمنّون.

قال أبو عمر: أما من حدّ في الغنى حدًّا خمسين درهمًا، أو أربعين درهمًا، أو مائتي درهم، وزعموا أن المرء غنيّ بملكه هذا المقدار، على اختلافهم فيه، ومن قال: لا يُعطى أحدٌ من الفقراء أكثر من مائتي درهم، أو أكثر من خمسين درهمًا من الزكاة، فإنه يدخل على كلّ واحد منهم ما يردّ قولَه من حديث سهل بن أبي حثْمَة أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - وَدَى الأنصاريّ المقتول بخيبر بمائة ناقة من إبل الصدقة، ودفعها إلى أخيه عبد اللَّه بن سهل، قد نزع لهذا بعض أصحابنا، وفي ذلك عندي نظر.

فأما من جعل المرء بملكه ما تجب فيه الصدقة غنيًّا؛ لقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم"، فإنه يدخل عليه الإجماع على أن من ملك خمسة أوسق من شعير، قيمتها خمسة دراهم، أو نحوها، مما لا يكون غنى عند أحد، وكان ملكه إياها بزرعه لها في أرضه، ولم يملك من حصاده غيرها أن الصدقة عليه فيها، وإن لم يملك شيئًا سواها، وهذا عند جميعهم فقير مسكين، غير غنيّ، وقد وجبت عليه الصدقة، وهذا ينقض ما أصّلوه. وما ذهب إليه مالك، والشافعيّ أولى بالصواب في هذا الباب، واللَّه أعلم انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- (٢).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذهب إليه الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى، من ترجيح مذهب الإمامين: مالك، والشافعيّ، وهي إحدى الروايتين عن


(١) - هو الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، كما سبق قريبًا.
(٢) - راجع "التمهيد" ج ٤ ص ٩٧ - ١١٩.