وقال عبيد اللَّه بن الحسن: من لا يكون له ما يقيمه، ويكفيه سنةً، فإنه يُعطى من الزكاة، وما أعلم لهذا القول وجهًا، إلا أن يكون صاحبه عساه أخذه من حديث ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الْحَدَثَان، عن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنّ رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان يدّخر مما أفاء اللَّه عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكُرَاع، والسلاح، مع قول اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}.
وقال الشافعيّ: يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يُخرجه ذلك من حدّ الفقر إلى حدّ الغنى، كان ذلك تجب فيه الزكاة، أو لا تجب فيه الزكاة، ولا أَحَدَ حَدّ في ذلك حدًّا. ذكره المزنيّ، والربيع جميعًا عنه، ولا خلاف عنه في ذلك. وكان الشافعيّ يقول أيضًا: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه، ولا يُغنيه الألف مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله.
وقال الطبريّ: لا يأخذ من الزكاة من له خمسون درهمًا، أو عدلها ذهبًا، إذا كان على التصرّف بها قادرًا، حتى يستغني عن الناس، فهذا كان كذلك حرُمت عليه الصدقة.
وأما إذا صرف الخمسين درهمًا في مسكن، أو خادم، أو ما لا يجد منه بُدًّا، وليس له سواها، وكان على التصرّف بها غير قادر حلّت له الزكاة بحديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في الخمسين درهمًا -يعني حديث الباب-. وذكر حديث قبيصة بن المخارق: لا تحلّ المسألة لمن له سداد من عيش، أو قوام من عيش. فكأنه جعل السداد الخمسين درهمًا المذكورة في حديث ابن مسعود. واللَّه تعالى أعلم بهذا الظاهر من معنى قوله هذا.
قال أبو عمر: ليس عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الإشكال، ولا ذكر أحدٌ عنه، ولا عنهم في ذلك نصًّا، غير ما جاء عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - من كراهية السؤال، وتحريمه لمن ملك مقدارًا مّا، في آثار كثيرة، مختلفة الألفاظ والمعاني، فجعلها قومٌ من أهل العلم حدًّا بين الغنيّ والفقير.
وأبى ذلك آخرون، وقالوا: إنما فيها تحريم السؤال، أو كراهيته، فأما من جاءه شيء من الصدقات عن غير مسألة، فجائزٌ له أخذه، وأكله، ما لم يكن غنيًّا الغنى المعروف
(١) -وهو الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، بإسناد صحيح، ولفظ أحمد: ١١١٤٤ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدٍ بْن أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِىِ سعيد الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لِغَنِيٍّ، إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِل عَلَيْهَا، أوْ رَجُلٍ اشتَرَاهَا بمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبيلِ اللَّهِ، أو مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيًّ".