للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لقوله في الحديث الآخر: "من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق … " الحديث، إذ المعنى: ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب، وإذا فسّر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد، وتفسير الحديث بالحديث أولى، ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنّة مع السابقين انتهى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن العربي، واستظهره الأبيّ هو الأرجح عندي، لكن بإبدال قوله: "بعده" بلفظ "فيه"، يعني أن الحجّ المبرور هو الذي ليس فيه رفثٌ، ولا فسوقٌ، بمعنى أنه لا معصية في حال إيقاعه، بل اجتنب فيه المحظورات الشرعية حال أدائه.

والحاصل أن معنى الحديثين واحدٌ، فيكون حديث "من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" تفسيرًا لمعنى قوله: "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة"، فإنه إذا رجع كيوم ولدته أمّه، أي ليس عليه شيء من الذنوب كان من أهل الجنّة السابقين إليها. واللَّه تعالى أعلم.

(لَيْسَ لَهَا جَزَاءٌ) أي ثوابٌ (إِلَّا الْجَنَّةُ) بالرفع، أو النصب، وهو نحو "ليس الطيب إلا المسك" بالرفع، فإن بني تميم يرفعونه حملًا لها على "ما" في الإهمال عند انتقاض النفي، كما حمل أهلُ الحجاز "ما" على "ليس" في الإعمال عند استيفاء شروطها، كذا قاله ابن هشام الأنصاريّ في "مغني اللبيب" (٢).

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "ليس له جزاء إلا الجنّة" معناه: أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بدّ أن يدخل الجنّة انتهى (٣).

وقال السنديّ: "ليس له جزاء إلا الجنّة": أي دخولُها أوّلًا، وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان، وعلى هذا فهذا الحديث من أدلّة أن الحجّ تغفر به الكبائر أيضًا؛ لحديث: "رجع كيوم ولدته أمه"، بل هذا الحديث يفيد مغفرة ما تقدّم من الذنوب، وما تأخّر. واللَّه تعالى أعلم انتهى (٤).

(وَالْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ) أي منتهية إلى العمرة. قال القاري: أي العمرة المنضمّة إلى العمرة، أو العمرة الموصولة، أو المنتهية إلى العمرة. وقال المناويّ: أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة، فـ "إلى" للانتهاء على أصلها. وقال الباجيّ، وتبعه


(١) - شرح الأبيّ ج ٣ ص ٤٤٥.
(٢) - راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ج ١ ص ٢٩٤، وذكر فيه قصّة جرت بين أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفيّ.
(٣) - "شرح مسلم" ج ٩ ص ١٢٢.
(٤) - "شرح السنديّ" ج ٥ ص ١١٢.