للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة. وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة (١).

قال الحافظ: واستدلّ لهم بأنه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب.

وتُعُّقّب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء، وهو يستحبّ فعله لرفع المشقّة عن أمّته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، فثبت الاستحباب من غير تقييد انتهى (٢).

وقد حقّق المسألة الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- ورد على القائلين بكراهة التكرار في كتابه "المحلّى"، ودونك عبارته:

[مسألة]: والحجّ لا يجوز إلا مرّة في السنة، وأما العمرة فنحبّ الإكثار منها؛ لما ذكرنا من فضلها، فأما الحجّ فلا خلاف فيه، وأما العمرة، فإننا روينا من طريق مجاهد، قال عليّ بن أبي طالب: في كلّ شهر عمرة. وعن القاسم بن محمد أنه كره عمرتين في شهر واحد. وعن عائشة أم المؤمنين أنها اعتمرت ثلاث مرّات في عام واحد. وعن سعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ كراهة العمرة أكثر من مرّة في السنة، وهو قول مالك. وروينا عن طاوس: إذا مضت أيام التشريق، فاعتَمِر متى شئت. وعن عكرمة اعتَمِرْ متى أمكنك الموسَى. وعن عطاء إجازة العمرة مرَّتين في الشهر. وعن ابن عمر أنه اعتمر مرّتين في عام واحد مرّة في رجب، ومرّةً في شوّال. وعن أنس بن مالك أنه أقام مدّة بمكّة، فكلما جمّ رأسه (٣) خرج فاعتمر. وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وبه نأخذ؛ لأن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قد أعمر عائشة مرّتين في الشهر الواحد، ولم يكره - عليه السلام - ذلك، بل حضّ عليها، وأخبر أنها تكفّر ما بينها، وبين العمرة الثانية فالإكثار منها أفضل، وباللَّه تعالى التوفيق.

واحتجّ من كره ذلك بأن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يعتمر في عام إلا مرّة واحدة.

قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنه إنما يُكره ما حَضَّ على تركه، وهو - عليه السلام - لم يحجّ مذ هاجر إلا حجة واحدة، ولا اعتمر مذ هاجر إلا ثلاث عُمَر، فيلزمكم أن تكرهوا الحجّ إلا مرّة في العمر، وأن تكرهوا العمر إلا ثلاث مرّات في الدهر، وهذا خلاف


(١) - راجع "شرح صحيح مسلم" للنوويّ ج ٩ ص ١٢٢.
(٢) - "فتح" ج ٤ ص ٤٣٣.
(٣) -أي طال شعر رأسه، وتجمّع.