قال: وأجاب الحنابلة بأشياء: منها: دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطنيّ، من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عبّاس حديثه، وقال: انظروا أيّ الحديثين قبلُ؟، ثم حكى الدارقطنيّ، عن أبي بكر النيسابوريّ أنه قال: حديث ابن عمر قبلُ, لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات.
وأجاب الشافعيّ عن هذا في "الأمّ"، فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن تكون عزبت عنه، أو شكّ، أو قالها، فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى.
قال: وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزيّ: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يُختلف في رفعه انتهى.
قال الحافظ: وهو تعليل مردود، بل لم يُختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذّة، على أنه اختُلف في حديث ابن عبّاس أيضًا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا. ولا يرتاب أحد من المحدّثين أن حديث ابن عمر أصحّ من حديث ابن عبّاس؛ لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وُصف بكونه أصحّ الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفّاظ، منهم نافع، وسالم، بخلاف حديث ابن عبّاس، فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيليّ: إنه شيخٌ بصريّ، لا يُعرف، كذا قال. وهو معروف، موصوفٌ بالفقه عند الأئمة.
واستدلّ بعضهم بالقياس على السراويل، كما سيأتي البحث عنه فيه في حديث ابن عبّاس، إن شاء اللَّه تعالى.
وأجيب بأن القياس مع وجود النصّ فاسد الاعتبار.
واحتجّ بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد، واللَّه لا يحبّ الفساد. وأجيب بأن الفساد إنما يكون فيما نَهَى الشرع عنه، لا فيما أذن فيه.
وقال ابن الجوزيّ: يُحمل القطع على الإباحة، لا على الاشتراط؛ عملاً بالحديثين. ولا يخفى تكلّفه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن بهذا أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب قطع الخفين، حتى يكونا أسفل من الكعبين، هو الحقّ، حملاً لحديث ابن عباس على حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وبه يحصل العمل بالحديثين، من غير إلغاء أحدهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.