(المسألة الأولى): الحديث يدلّ على أن من لم يجد نعلين يجوز له لبس الخفّين بشرط قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعين، وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والجمهور، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه جواز لبسهما بحالهما عند فقد النعلين، ولا يجب قطعهما. واستدلّ له بحديث ابن عباس، وجابر - رضي اللَّه عنهم -: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفّين"، وهما في "الصحيح"، وليس فيهما ذكر القطع، وزعم أصحابه أن حديث ابن عمر المصرّح بقطعهما منسوخ، وقالوا: قطعهما إضاعة مال. وقال عمرو ابن دينار: ولا أدري أيّ الحديثين نسخ الآخر، انظروا أيهما قبلُ.
وقال الجمهور يجب حمل حديث ابن عباس، وجابر على حديث ابن عمر؛ لأنهما مطلقان، وفي حديث ابن عمر زيادة لم يذكراها يجب الأخذ بها. قال الشافعيّ: ابن عمر، وابن عباس، كلاهما صادقٌ حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يؤدّه الآخر، إما عزب عنه، وإما شكّ فيه، فلم يؤدّه، وإما سكت عنه، وإما أدّاه فلم يُؤَدَّى عنه، لبعض هذه المعاني اختلفا انتهى.
وقولهم: إنه إضاعة مال مردود، فإن الإضاعة إنما تكون في المنهيّ عنه، وأما ما ورد به الشرع فهو حقّ يجب الإذعان له. واللَّه أعلم.
وحكى الخطّابيّ، عن عطاء بن أبي رباح أنه لا يقطعهما؛ لأن في قطعهما إفسادًا، ثم قال: يشبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر، قال: والعجب من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لم تبلغه. وقال ابن العربيّ: أما عطاء فيهم في الفتوى، وأما أحمد فعلى صراط مستقيم، قال: وهذه القولة لا أراها صحيحة، فإن حَمْلَ المطلق على المقيّد أصل أحمد انتهى. ذكره وليّ الدين (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الراجح حمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وهو أن من لم يجد نعلين لبس الخفّين، ولكن يقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين، فبهذا يُجمَع بين الحديثين، وهو الطريق الذي يحصل به العمل بالحديثين، فيكون أولى من إبطال أحدهما بدعوى النسخ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): ظاهر الحديث أنه إذا فقد النعلين، ولبس الخفّين مقطوعين أسفل من الكفين، لم تلزمه فدية، إذ لو كانت لازمة لبيّنها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، وهذا موضع بيانها، وهو من جهة المعنى واضح، فإنه لم يرتكب محظورًا، وبهذا قال مالك، والشافعيّ،