وقال ابن مسعود، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار.
ومن حجة الأولين ما رواه الطحاويّ، وغيره من طريق عبد الملك بن جابر، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقدّ قميصه من جيبه، حتى أخرجه من رجليه، وقال: "إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلّد اليوم، وتُشعَرَ على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي … " الحديث. وهذا لا حجة فيه؛ لضعف إسناده. إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرّد بذلك خطأ.
وقد ذهب سعيد بن المسيّب إلى أنه لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح.
نعم جاء عن الزهريّ ما يدلّ على أن الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان، عن شعيب، عنه، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، قال: أول من كشف العَمَى عن الناس، وبيّن لهم السنة في ذلك عائشةُ. فذكر الحديث عن عروة، وعمرة، عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس.
وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرّد تقليده الهدي محرما. حكاه ابن المنذر عن الثوريّ، وأحمد، وإسحاق، قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي، وأمّ البيت، ثم قلّد وجب عليه الإحرام. قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرمًا, ولا يجب عليه شيء. ونقل الخطابيّ عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس، وهو خطأ عليهم، فالطحاويّ أعلم بهم منه، ولعل الخطابيّ ظنّ التسوية بين المسألتين انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر من الأقوال، وأدلتها أن أرجح الأقوال قول الجمهور: إن تقليد الهدي لا يوجب الإحرام، ولا يُحَرَّم شيئًا، فمن بعث بالهدي، لا يلزمه إحرام، ولا اجتاب شيء مما يجتبه المحرم؛ لحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الصحيح الصريح في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
٢٧٩٤ - (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ, وَقُتَيْبَةُ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -, ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا, مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ").
(١) -"فتح" ٤/ ٣٦٦ - ٣٦٧.