وبما رواه عبد بن حميد، عن أبي نُعيم، عن الثوريّ، عن ابن جريج، عن عطاء، قال في قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: ١٩٦]، قال: الإحصار من كلّ شيء بحسبه.
وذهب آخرون إلى أنه لا حصر إلا بالعدوّ، وصح ذلك عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، وأخرجه الشافعيّ، عن ابن عيينة، كلاهما عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال:"لا حصر إلا مَن حَبَسَه عدوّ، فيحلّ بعمرة، وليس عليه حج، ولا عمرة". وروى مالك في "الموطإ"، والشافعيّ عنه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال:"من حُبس دون البيت بالمرض، فإنه لا يحلّ حتى يطوف بالبيت". وروى مالك، عن أيوب، عن رجل من أهل البصرة، قال:"خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت بالطريق كُسرت فخذي، فارسلت إلى مكة -وبها عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، والناس- فلم يرخّص لي أحد في أن أحلّ، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر، ثم حَلَلت بعمرة". وأخرجه ابن جرير من طرق، وسمّى الرجل يزيد بن عبد اللَّه بن الشخّير.
وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، قال الشافعيّ: جعل اللَّه على الناس إتمام الحجّ والعمرة، وجعل التحلّل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدوّ، فلم نَعْدُ بالرخصة موضعها.
وذهب آخرون إلى أنه لا حصر بعد النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، رَوَى مالك في "الموطإ" عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"المحرم لا يحلّ حتى يطوف". أخرجه في "باب ما يفعل من أحصر بغير عدو". وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"لا أعلم المحرم يحلّ بشيء دون البيت". وعن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بإسناد ضعيف، قال: لا إحصار اليوم". وروي ذلك عن عبد اللَّه بن الزبير.
وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة- منهم الأخفش، والكسائيّ، والفرّاء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، وابن السّكِّيت، وثعلب، وابن قتيبة، وغيرهم- أن الإحصار إنّما يكون بالمرض، وأما بالعدوّ، فهو الحصر، وبهذا قطع النحّاس. وأثبت بعضهم أن أُحصِرَ، وحُصِرَ بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرّف، قال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: ٢٧٣]، وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدوّ إياهم.