وذهب الحنابلة إلى وجوب الإحرام إلا على الخائف، وأصحاب الحاجات المتكرّرة، هذا هو المشهور عندهم، ولم يوجبه بعضهم. وعن أحمد ما يدلّ عليه.
وذهب المالكية في المشهور عنهم إلى وجوبه على غير ذوي الحاجات المتكررة. قال وليّ الدين: ولم أرهم استثنوا الخائف، والظاهر أنهم لا ينازعون في استثنائه، فهو أولى بعدم الوجوب من ذوي الحاجات المتكررة. وذهب أبو مصعب إلى عدم وجوبه، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وَرُوِيَ عنه أيضًا مثل رواية غيره من أصحابه. حكاه ابن عبد البرّ.
وذهب الحنفية إلى وجوبه مطلقًا. قال وليّ الدين: ولم أرهم استثنوا من ذلك إلا من كان داخل الميقات، فلم يوجبوا عليه الإحرام، والظاهر أنهم أيضًا لا ينازعون في الخائف، بل ولا في ذوي الحاجات المتكرّرة، وإن لم يصزحوا باستثنائهم، فإنهم علّلوا منع الوجوب فيمن هو داخل الميقات بأنه يكثر دخولهم مكة، وفي إيجاب الإحرام عليهم كلّ مرّة حرج بيّنٌ، فصاروا كأهل مكة، حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام، لكن مقتضى كلام ابن قدامة في "المغني" منازعتهم في هاتين الصورتين أيضًا.
وقد تحرّر من ذلك أن المشهور من مذهب الشافعيّ عدم الوجوب مطلقًا. ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب، إلا فيما يستثنى، وحكاه ابن عبد البرّ، والقاضي عياض عن أكثر العدماء. وعدمُ الوجوب محكى عن عبد اللَّه بن عمر، وبه قال الزهريّ، والحسن البصريّ، وزعم ابن عبد البرّ انفرادهما بذلك من بين السلف، وأن المشهور عن الشافعيّ الوجوب، وليس كما قال، وذهب إلى عدم الوجوب أيضًا داود، وابن حزم، فقد نصره في كتابه "المحلّى"، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة، وأبو البقاء ابن عقيل، قال ابن مفلح في "الفروع": وهي ظاهرة (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أنّ دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد الحج، أو العمرة جائزٌ؛ لحديث الباب، فقد دخل - صلى اللَّه عليه وسلم -، وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - غير محرمين، ولصريح قوله - صلى اللَّه عليه وسلم - عند تحديده المواقيت:"هن لهنّ، ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ، ممن كان يريد الحجّ، والعمرة". متّفق عليه، فقد صرّح بأن وجوب الإحرام من المواقيت المحدّدة لمن أراد الحجّ، أو العمرة، فدلّ على أن من لم يردهما، أو أحدهما لا يجب عليه الإحرام منها.
وأيضًا فقد كان المسلمون في عهده - صلى اللَّه عليه وسلم - يترددون إلى مكة في حوائجهم، فلم ينقل عنه أنه أمر أحدًا بأن يدخل محرمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،