مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ, حَرَّمَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-, لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الْقِتَالُ لأَحَدٍ قَبْلِي, وَأُحِلَّ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"مفضّل": هو ابن مهلهل السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ الثقة الثبت النبيل العابد [٧] ٢٥/ ١٢٤٠.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الذي قبله، وبقي البحث في مسألتين:
(المسألة الأولى): أنه استُدلّ بقوله: "لم يحلّ فيه القتال لأحد قبلي"، وزاد في رواية أخرى للبخاريّ: "ولا يحلّ لأحد بعدي" على تحريم القتل، والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حدّ القتل فيها على من أوقعه فيها، وخصّ الخلاف بمن قتل في الحلّ ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزيّ. واحتجّ بعضهم بقتل ابن خطل بها, ولا حجة فيه؛ لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -كما تقدّم. وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر، وابن عباس - رضي اللَّه عنهم -، وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا. ونقل التفصيل عن مجاهد، وعطاء.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحلّ باختياره، لكن لا يجالس، ولا يكلّم، ويوعظ، ويذكّر حتى يخرج.
وقال أبو يوسف: يُخرَج مضطرًّا إلى الحلّ، وفعله ابن الزبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "من أصاب حدًّا، ثم دخل الحرم، لم يُجالس، ولم يبايع".
وعن مالك، والشافعيّ: يجوز إقامة الحدّ مطلقًا فيها؛ لأن العاصي هتك حرمة نفسه، فأبطل ما جعل اللَّه له من الأمن.
وأما القتال، فقال الماورديّ: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردّهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال، فقال الجمهور: يقاتلون؛ لأن قتال البغاة من حقوق اللَّه تعالى، فلا يجوز إضاعتها.
وقال آخرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيّق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة. قال النوويّ: والأول نصّ عليه الشافعيّ، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعمّ أذاه، كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصّن الكفّار في بلد، فإنه يجوز قتالهم على كلّ وجه. وعن الشافعيّ قول آخر بالتحريم، اختاره القفّال، وجزم به في