لا آمن أبا سفيان أن يرتدّ، فردّه حتى تريه جنود اللَّه، قال:"افعل"، فذكر القصّة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكلّ من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثمّ قال الشافعيّ: كانت مكة مأمونة، ولم يكن فتحها عنوةً، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرّضوا للقتال، أو الذين استثنوا من الأمان، وأمران يقتلوا, ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة.
ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره - صلى اللَّه عليه وسلم - بالقتال، وبين تأمينه - صلى اللَّه عليه وسلم - لهم بأن يكون التأمين علّق بشرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرّقوا إلى دورهم، ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد، ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم، وهزمهم أن تكون البلدة فتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول، لا بالأتباع، وبالأكثر، لا بالأقلّ، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة، ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيّد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة. وعند أبي داود بإسناد حسن، عن جابر - رضي اللَّه عنه - أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا.
وجنحت طائفة- منهم الماورديّ- إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصّة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل".
قال الحافظ: والحقّ أن صورة فتحها كان عنوةً، ومعاملة أهلها معاملة من دخل بأمان.
ومنع جمع منهم السهيليّ ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها، وإجارتها على أنها فتحت صلحًا:
أما أوّلاً فلأن الإمام مخيّر في قسمة الأرض بين الغانمين، إذا انتُزِعَت من الكفار، وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور، وإجارتها.
وأما ثانيًا، فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار، فتأكلها، وتصير الأرض عمومًا لهم، كما قال اللَّه تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: ٢١]. وقال:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية [الأعراف: ١٣٧]. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا. قاله في "الفتح"(١).
(١) -"فتح" ٨/ ٣٢٤ - ٣٢٦. "كتاب المغازي" - "باب أين ركز النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - الراية يوم الفتح".