الحرّ يريد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وقد كان وَتَرَهم في الجاهلية، وكانوا يطلبونه، فقتلوه، فلما بلغ ذلك رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - غضب غضبًا شديدًا ما رأيته غضب غضبًا أشدّ منه، فلما صلى قام، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن اللَّه حرّم مكة انتهى.
(سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) أراد أنه بالغ في حفظه، والتثبت فيه، وأنه لم يأخذه بواسطة، وأتى بالتثنية تأكيدًا (وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأبْصَرَتْهُ عَينَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بهِ) أي بذلك القول.
وفي هذا الكلام إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوَجوه، فقوله:"سمعته" أي حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد. وقوله:"ووعاه قلبي" تحقيق لفهمه، وتثبّته. وقوله:"وأبصرته عيناي" زيادة في تحقيق ذلك، وأن سماعه منه ليس اعتمادًا على الصوت فقط، بل مع المشاهدة. وقوله:"حين تكلَّم به" أي بالقول المذكور. ويؤخذ من قوله:"ووعاه قلبي" أن العقل محله القلب.
(حَمِدَ اللَّهَ) هو بيان لقوله: "تكلم". ويؤخذ منه استحباب الثناء على اللَّه تعالى بين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام، والخطبة في الأمور المهمّة، وقد تقدم من رواية ابن إسحاق أنه قال فيها:"أما بعد"(وَأَثْنَى عَلَيْهِ) عطف على جملة الحمد، من عطف العام على الخاصّ (ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرَّمْهَا النَّاسُ) بضم أوله، من التحريم، أي أن تحريمها كان بوحي من اللَّه، لا من اصطلاح الناس. وتقدم الجمع بين هذا وبين حديث "إن إبراهيم حرم مكة" في شرح حيث ابن عباس الماضي (وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ، يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فيه تنبيه على الامتثال؛ لأن من آمن باللَّه لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه؛ خوف الحساب عليه، وقد تعلّق به من قال: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثرين خلافه، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام، وينزجر عن المحرّمات، فجعل الكلام معه، وليس فيه نفي ذلك عن غيره.
وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه خطاب التهييج، نحو قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة: ٢٣]. فالمعنى أن استحلال هذا المنهيّ عنه لا يليق بمن يؤمن باللَّه، واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقًا لم يحصل منه هذا الغرض، وإن أفاد التحريم.
(أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا) بكسر الفاء، من باب ضرب، وفيه لغة أخرى، من باب قتل، وهو صبّ الدم، والمراد به القتل. واستدلّ به على تحريم القتل والقتال بمكة، وهو القول الراجح، وتقدّم تحقيقه قريبًا (وَلَا يَعْضِدَ بِها شَجَرًا) بكسر الضاد المعجمة (١)،
(١) - وليس بضمها، فما يوجد في النسخ المطبوعة بالضمّ بضبط القلم غلطٌ؛ لأن عضد يعضُد بالضم، من باب نصر بمعنى أعان، راجع "القاموس"، و "المصباح"، وهو لا يناسب هنا، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.