المحضة. (ومنها): أنه يستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضدّه إذا فُهم المعنى؛ لأن صيغة الأمر في قوله:"فجاهد" ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما، وليس ذلك مرادًا قطعًا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد، وهو تعب البدن والمال. (ومنها): أنه يؤخذ منه أن كلّ شيء يتعب النفس يسمّى جهادًا. (ومنها): أن المكلّف يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد، فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه، فَدُلَّ على ما هو أفضل منه في حقّه، ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك. وفي رواية مسلم، وسعيد بن منصور من طريق ناعم مولى أم سلمة، عن عبد اللَّه بن عمرو في نحو هذه القصّة، قال:"ارجع إلى والديك، فأحسِنْ صحبتهما". ولأبي داود، وابن حبّان من وجه آخر، عن عبد اللَّه بن عمرو:"ارجع، فأضحكهما كما أبكيتهما"، وأصرح من ذلك حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ:"ارجع، فأستأذنهما، فإن أذنا لك، فجاهد، وإلا فبرّهما"، وصحّحه ابن حبّان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في حكم الجهاد إذا منع الوالدان:
قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيّن الجهاد، فلا إذن. ويشهد له ما أخرجه ابن حبّان من طريق أخرى، عن عبد اللَّه بن عمرو:"جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فسأله عن أفضل الأعمال؟، قال: "الصلاة"، قال: ثمّ مه؟ قال: "الجهاد"، قال: فإن لي والدين، فقال: "آمرُك بوالديك خيرًا"، فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيًّا لأجاهدنّ، ولأتركنهما، قال: "فأنت أعلم".
وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقًا بين الحديثين، وهل يُلحق الجدّ والجدّة بالأبوين في ذلك؟ الأصحّ عند الشافعيّة نعم، والأصحّ أيضًا لا يفرّق بين الحرّ والرقيق في ذلك لشمول طلب البرّ، فلو كان الولد رقيقًا، فأذن له سيده لم يعتبر إذن أبويه. ولهما الرجوع في الإذن إلا إن حضر الصفّ، وكذا لو شرطا أن لا يقاتل، فحضر الصفّ، فلا أثر للشرط. قاله في "الفتح" (١). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".