أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان:"قال: لا أستطيع ذلك".
وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل اللَّه، تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال.
لكن يعارضه ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، أنه قال:"ما العمل في أيام، أفضلَ منها في هذه" -يعني أيام عشر ذي الحجة-، قالوا: ولا الجهاد؟، قال:"ولا الجهاد، إلا رجل خرج، يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء".
ويمكن أن يجاب بأن عموم حديث الباب خُصّ بما دلّ عليه حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. أو يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصًا بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله، فأصيب، كما بينه قوله:"خرج يُخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشي"، فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة.
لكن يُشكل عليه ما تقدّم في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -: "وتوكّل اللَّه للمجاهد … " الحديث.
ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولاً خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجرٌ في الجملة، كما تقدّم تحقيقه في شرح حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - المذكور.
وأشدّ مما تقدّم في الإشكال ما أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وأحمد، وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء - رضي اللَّه عنه -، مرفوعًا:"ألا أنبّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب، والورِقِ، وخير لكم من أن تلقَوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ "، قالو ا: بلى، قال:"ذكر اللَّه".
فإنه ظاهرٌ في أن الذكر بمجرّده أفضل، من أبلغ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق، مع ما في الجهاد، والنفقة من النفع المتعدّي. ذكره في "الفتح"(١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ذكر هذا الاستشكال الحافظ في "الفتح"، ولم يُجب عنه.
والذي يظهر لي أن حديث الجهاد يرجح على حديث الذكر؛ لأنه متّفق عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر حديث الباب: ما نصّه: قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد لَيَستنّ في طِوَله، فيُكتب له حسنات". وقوله: "يستنّ" أي يَمْرَح بنشاط،