للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(لِلنَّبِيِّ - صلى اللَّه عليه وسلم -) متعلّق بـ"وهبن" (فَأَقُولُ: أَوَ تَهَبَ الحُرَّةُ نَفْسَهَا؟) استفهام إنكاريّ. وفي رواية البخاريّ: "أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل" (فَأَنزَلَ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {تُرْجِي} قُرىء مهموزًا، وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر، وأرجأته: إذا أخّرته. أي تؤخّرهنّ بغير قسم. وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبريّ عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وغيرهم. وأخرج الطبريّ أيضًا عن الشعبيّ في قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال: كنّ نساء وهبن أنفسهنّ للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فدخل ببعضهنّ، وأرجأ بعضهن، لم ينكحهنّ. وهذا شاذّ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات، كما تقدّم.

وقيل: المراد بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أنه كان همّ بطلاق بعضهنّ، فقلن له: لا تطلّقنا، واقسم لنا ما شئت، فكان يَقسم لبعضهنّ قسمًا مستويًا، وهنّ اللواتي آواهنّ، ويَقسم للبواقي ما شاء، وهنّ اللواتي أرجأهنّ.

فحاصل ما نُقل في تأويل {ترجي} أقوال: [أحدها]: تطلّق، وتُمسك. [ثانيها]: تعتزل من شئت منهت بغير طلاق، وتَقسم لغيرها. [ثالثها]: تَقبَل من شئت من الواهبات، وترُدّ من شئت. وحديث الباب يؤيّد هذا، والذي قبله، واللفظ محتملٌ للأقوال الثلاثة.

{مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية) هذا صريح في أن هذه الآية نزلت بهذا السبب، قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: حملت عائشةَ - رضي اللَّه تعالى عنها - على هذا التقبيح الغَيْرَةُ التي طُبعت عليها النساء، وإلا فقد علمت أن اللَّه تعالى أباح لنبيّه - صلى اللَّه عليه وسلم - ذلك، وأن جميع النساء لو مَلَّكْنَ له رقّهنّ، ورقابهنّ للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لكنّ معذورات في ذلك، ومشكورات عليه لعظيم بركته، ولشرف منزلة القرب منه، وعلى الجملة فإذا حُقّق النظر في أحوال أزواجه عُلم أنه لم يحصل أحد في العالم على مثل ما حصلن عليه، ويكفيك من ذلك مخالطة اللحوم، والدماء، ومشابكة الأعضاء والأجزاء، وناهيك بها مراتب فاخرة، لا جَرَمَ هنّ أزواجه المخصوصات به في الدنيا والآخرة. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف (١).

(قُلْتُ: واللَّه مَا أَرَى رَبَّكَ، إِلاَّ يُسَارعُ لَكَ فِي هَوَاكَ) وفي رواية محمد بن بشر: "إني لأرى ربّك يُسارع لك في هواك". أي في رضاك. وقال النوويّ: قولها: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك": هو بفتح الهمزة من "أرَى، ومعناه: يُخفّف عنك، ويوسّع عليك في الأمور، ولهذا خيّرك (٢).


(١) - "المفهم" ٤/ ٢١١ - ٢١٢.
(٢) - "شرح مسلم "١٠/ ٢٩١.