(أَفَاَخْتَصِي؟) أي أستخرج الْخُصْيَتين (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن أبي هريرة عبّر عنه باسم الغيبة؛ لأن الكلام في محلّ إعراض النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عنه، ومثل هذا المقام يناسب الغيبة، فافهم. قاله السنديّ (النَّبِيُّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، حَتَّى قَالَ: ثَلَاثًا) أي حتى ردّد الكلام أبو هريرة ثلاث مرّات (فَقَالَ: النَّبِيُّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ) أي جَفَّ القلم بالفراغ من كتابة ما هو كائنٌ في حقك، أي قد كُتِبَ عَليك، وقُضي ما تلقاه في حياتك، والمقدور لا يتبدّل بالأسباب، فلا ينبغي ارتكاب الأسباب المحرّمة لأجله، نعم إذا شرع اللَّه تعالى سببًا، أو أوجبه فالمباشرة به شيء آخر. قاله السنديّ.
وقال في "الفتح": قوله: " جفّ القلم الخ": أي نفذ المقدور بما كُتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كُتب به جافًّا، لا مِداد فيه؛ لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتابة اللَّه، ولوحه، وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به، ونكل علمه إليه انتهى. (فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ, أَوْ دَعْ) ولفظ البخاريّ: "أو ذَر"، ومعناهما واحدٌ، أي اترك الاختصاء.
وفي رواية الطبرانيّ، وحكاها الحميديّ في "الجمع"، ووقعت في "المصابيح": "فاقتَصِرْ على ذلك، أو ذَرْ" قال الطيبيّ: معناه اقتصر على الذي أمرتك به، أو اتركه، وافعل ما ذكرتَ من الخصاء انتهى.
وأما اللفظ الذي وقع في الأصل، فمعناه: فافعل ما ذكرتَ، أو اتركه، واتبع ما أمرتك به. وعلى الروايتين، فليس الأمر فيه لطلب الفعل، بل هو للتهديد، وهو كقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية [الكهف: ٢٩].
والمعنى إن فعلتَ، أو لم تفعل فلا بدّ من نفوذ القدر، وليس فيه تعرّضٌ لحكم الخصاء.
ومُحَصَّلُ الجواب أن جميع الأمور بتقدير اللَّه تعالى في الأزل، فالخصاء، وتركه سواء، فإن الذي قدّر لا بدّ أن يقع.
وقوله: "على ذلك" متعلّق بمقدّر، أي اختصِ حال استعلائك على العلم بأن كلّ شيء بقضاء اللَّه وقدره، وليس إذنًا في الخصاء، بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك، كأنه قال: إذا علمت أن كلّ شيء بقضاء اللَّه، فلا فائدة في الاختصاء. وقد تقدّم أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - نهى عثمان بن مظعون لَمّا استأذنه في ذلك، وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدّة.
وأخرج الطبرانيّ من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: شكا رجلٌ إلى