للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

من الصياح قال مالك: طُلِّقت امرأتك، فانصرف الرجل حَزِينًا، فقام الشافعيّ إليه، وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، وقال للسائل: أصياح قُمريّك أكثر، أم سكوته؟ قال السائل: بل صياحه، قال الشافعيّ: امض، فإن زوجتك ما طُلّقت، ثم رجع الشافعيّ إلى الحلقة، فعاد السائل إلى مالك، وقال: يا أبا عبد اللَّه، تفكر في واقعتي، تستحقّ الثواب، فقال مالك -رحمه اللَّه تعالى-: الجواب ما تقدّم، قال: فإن عندك من قال: الطلاق غير واقع، فقال مالك: ومن هو؛ فقال السائل: هو هذا الغلام، وأومأ بيده إلى الشافعيّ، فغضب مالك، وقال: ومن أين هذا الجواب، فقال الشافعيّ: لأني سألته أصياحه أكثر، أم سكوته؟ فقال: إن صياحه أكثر، فقال مالك: وهذا الدليل أقبح، أَيُّ تأثيرٍ لقلّة سكوته، وكثرة صياحه في هذا الباب؟، فقال الشافعيّ: لأنك حدّثتني عن عبد اللَّه بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، أنها أتت النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقالت: يا رسول اللَّه إن أبا جهم، ومعاوية خطباني، فبأيهما أتزوّج؟، فقال لها: "أما معاوية فصُعلوك، وأما أبو جهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه"، وقد علم الرسول - صلى اللَّه عليه وسلم - أن أبا جهم كان يأكل، وينام، ويستريح، فعلمنا أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - عَنَى بقوله: "لا يَضَعُ عصاه عن عاتقه" على تفسير أن الأغلب من أحواله ذلك، فكذلك هنا حملتُ قوله: هذا القمريّ لا يهدأ من الصياح أن الأغلب من أحواله ذلك، فلما سمع مالكٌ ذلك تعجّب من الشافعيّ، ولم يَقدَح في قوله البتّة انتهى (١).

وقوله: "فصُعلوك" بضم الصاد المهملة، والسلام، كعُصْفُور: الفقير.

وقوله: "لا ما له": قال النوويّ: في هذا الحديث استعمال المجاز، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة، فإنه قال ذلك مع العلم بأنه كان لمعاوية - رضي اللَّه عنه - ثوبٌ يلبسه، ونحو ذلك من المال المحقّر، وأن أبا جهم كان يَضَعُ العصا عن عاتقه في حال نومه، وأكله، وغيرهما، ولكن لما كان كثير الحمل للعصا، وكان معاوية قليل المال جدًّا، جاز إطلاق هذا اللفظ عليه مجازًا انتهى.

وقولها: "واغْتَبَطتُ" يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، أو المفعول، من الاغتباط، يقال: غبطت الرجلَ أغبِطه غبطًا، من باب ضرب: إذا تمنّيت أن يكون حالك مثل حاله، من غير أن تريد زوالها منه، ولا أن تتحوّل عنه، فهو محمودٌ، بخلاف الحسد، فإنه تمنّي نعمته على أن تتحوّل عنه، وهو مذموم.

وقال في "اللسان": الغِبطة: حسن الحال، والنعمة والسرور، قال: وفلان مغتبط - أي بكسر الباء-: أي في غِبْطة، وجائزٌ أن تقول: مُغتَبَطٌ -بفتح الباء-، وقد اغتبط-


(١) - راجع "زهر الربى" ٦/ ٧٦.