فيه، وهو من أبغض شيء إليها؟ ومع هذا فيُنكحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "اتقوا اللَّه في النساء، فإنّهنّ عوان عندكم"(١). أي أسرى. ومعلومٌ أن إخراج مالها كلّه بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها، ولقد أبطل من قال: إنها إذا عيّنت كفؤًا تحبّه، وعيّن أبوها كفؤًا، فالعبرة بتعيينه، ولو كان بغيضًا إليها، قَبِيح الخِلْقة.
وأما موافقته لمصالح الأمّة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضدّ ذلك بمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لم تأت السنّة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره. وباللَّه التوفيق.
[فإن قيل]: فقد حكم رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - بالفرق بين البكر والثيّب، وقال:"لا تُنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، وقال:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر يَستأذنها أبوها"، فجعل الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، فعُلم أن وليّ البكر أحقّ بها من نفسها، وإلا لم يكن لتخصيص الأيّم بذلك معنيً.
وأيضًا فإنه فرّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثيّب النطق، وإذن البكر الصَّمت، وهذا كلّه يدلّ على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقّ لها مع أبيها.
[فالجواب]: أنه ليس في ذلك ما يدلّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها، وعقلها، ورُشدها، وأن يزوّجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفؤًا، والأحاديث التي احتججتم بها صريحةٌ في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى من قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها". هذا إنما يدلّ بطريق المفهوم، ومنازعوكم يُنازعونكم في كونه حجّةٌ. ولو سُلّم أنه حجّةٌ، فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح. وهذا أيضًا إنما يدلّ إذا قلت: إن للمفهوم عمومًا، والصواب أنه لا عموم له، إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بدّ له من فائدةٍ، وهي نفي الحكم عما عداه، ومعلومٌ أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنفيّه فائدة، وأن إثبات حكم آخر للمسكوت فائدة، وإن لم يكن ضدّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف، وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى، كما تقدّم، ويخالف النصوص المذكورة.
وتأمّل قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "والبكر يستأذنها أبوها"، عقب قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها"، قطعًا لتوهّم هذا القول، وأن البكر تُزوّج بغير رضاها، ولا إذنها، فلا حقّ لها