للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

غير أن يقيّد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب، ولا بشخص من الأشخاص، ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم، وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إن سالمًا ذو لحية، فقال: "أرضعيه". انتهى كلام الشوكانيّ (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذا القول الثالث المفصِّل كما ذهب إليه ابن تيمية، ورجحه الشوكانيّ -رحمهما اللَّه تعالى- هو الأرجح إذ به يحصل التوفيق بين الأدلة، وحاصله أن رضاع الكبير محرّمٌ، إذا كانت هناك حاجة مثل حاجة سهلة، وسالم، حيث إنه لا يستغني عن دخوله عليها، ويشق عليها الاحتجاب عنه، فإذا رضع منها خمس رضعات، كما أمر - صلى اللَّه عليه وسلم - سهلة بأن ترضع سالمًا خمس رضعات ثبت التحريم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختلف القائلون بعدم تحريم رضاع الكبير في السنّ الذي يختص التحريم بالإرضاع فيه على أقوال:

(القول الأوّل): أنه حولان على طريق التحديد من غير زيادة، فمتى وقع الرضاع بعدهما، ولو بلحظة لم يترتّب عليه حكم. وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد، وأبي ثور، وحكاه ابن عبد البرّ عن الحسن بن حيّ. وحكاه ابن حزم عن ابن شبرمة، وسفيان الثوريّ، وداود، وأصحابهم. وحكاه ابن عبد البرّ عن داود أيضًا. وهذا يُخالف نقل النوويّ عن داود. قال ابن حزم: ورواه ابن وهب، عن مالك، ثم رجع عنه.

واحتجّ هؤلاء بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} الآية. وبقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إنما الرضاعة من المجاعة" (٢)، متّفقٌ عليه. قال ابن عبد البرّ: وهو خلاف رواية أهل المدينة عن عائشة، ولكن العمل بالأمصار على هذا انتهى.

وبما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء (٣)، من الثدي، وكان قبل الفطام". قال الترمذيّ: حسنٌ صحيح. وروى الدارقطنيّ من طريق الهيثم بن جميل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". قال الدارقطنيّ: لم يسنده، عن ابن عيينة


(١) "نيل الأوطار" ٦/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٢) أي إن الرضاعة التي يحصل بها الحرمة ما كان في الصغر والرضيعُ طفل يقوته اللبن، ويسد جوعه بخلاف ما بعد ذلك من الحال التي لا يشبعه فيها إلا الخبز واللحم، وما في معناهما انتهى "طرح التثريب" ٧/ ١٣٦.
(٣) قوله: "فتق الأمعاء" بالفاء، والتاء: أي وسعها لاغتذاء الصبيّ به وقت احتياجه إليه.