للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

القدرُ، لا العزل، فأيّ حاجة إليه.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في معنى قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ما عليكم ألا تفعلوا الخ": فقيل: ما عليكم في العزل، ولا في امتناعكم منه شيء، فاعزلوا، أو لا تعزلوا، فقد فُرغ من الخلق، وإعدادهم، وما قضي، وسَبَقَ في علم اللَّه، فلا بدّ أن يكون لا محالة. قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: ٢٩]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: ٥٢، ٥٣] وقيل: بل معنى قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "أن لا تفعلوا": أي لا تفعلوا العزل، كأنه نَهى عنه. انتهى كلام ابن عبد البرّ (١).

وقال العلاّمة أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في قوله: "لا عليكم ألا تفعلوا"، ففهمتْ طائفةٌ منه النهي والزجر عن العزل، كما حكي عن الحسن، ومحمد ابن المثنى، وكان هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سُئل عنه، وحُذف بعد قوله: "لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألاّ تفعلوا، تأكيدًا لذلك النهي.

وفهمت طائفةٌ أخرى منها الإباحة، وكأنها جعلت جواب السؤال قوله: "لا عليكم ألا تفعلوا": أي ليس عليكم جناحٌ في أن لا تفعلوا.

وهذا التأويل أولى بدليل قوله: "ما من نسمة كائنة إلا ستكون"، وبقوله: "لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر"، وبقوله: "إذا أراد اللَّه خلقَ الشيء لم يمنعه شيء"، وهذه الألفاظ كلّها مصرّحة بأن العزل لا يردّ القدر، ولا يضرّه، فكأنه قال: لا بأس به.

وبهذا تمسّك من رأى إباحة العزل مطلقًا عن الزوجة والسُّرِّيّة، وبه قال كثيرٌ من الصحابة، والتابعين، والفقهاء.

وقد كرهه آخرون من الصحابة، وغيرهم، متمسّكين بالطريقة المتقدّمة، وبقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ذلك الوأد الخفيّ" (٢).

ووقع في رواية مسلم لهذا الحديث من طريق أيوب، عن ابن سيرين: ما نصّه: "قال محمد (٣): وقوله: لا عليكم" أقرب إلى النهي. ومن طريق معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن ابن سيرين: ما نصّه: قال ابن عون: فحدّثتُ به الحسنَ، فقال: واللَّه لكأنّ هذا زجر.

قال في "الفتح": قال القرطبيّ: كان هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه،


(١) "الاستذكار" ١٨/ ٢٠٤ - ٢٠٥.
(٢) رواه أحمد ٦/ ٣٦١ رقم ٤٣٤، ومسلم ١٤٤٢، وابن ماجه ٢٠١١.
(٣) أي ابن سيرين.