قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقيّ: يُشبه أن يكون كما قال لصحّة الحديث في أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - رخّص فيها بعد ذلك، ثمّ نهى عنها، فلا يتمّ احتجاج عليّ إلا إذا وقع النهي أخيرًا؛ لتقوم الحجة به على ابن عبّاس - رضي اللَّه عنهما -.
وقال أبو عوانة في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليّ - رضي اللَّه عنه - أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة، فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح انتهى.
والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر، كما أشار إليه البيهقيّ، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًّا - رضي اللَّه عنه - لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح؛ لوقوع النهي عنها عن قربٍ، كما سيأتي بيانه، ويؤيّد ظاهرَ حديث عليّ - رضي اللَّه عنه - ما أخرجه أبو عوانة، وصححه من طَريق سالم بن عبد اللَّه:"أن رجلًا سأل ابن عمر عن المتعة؟، فقال: حرام، فقال: إن فلانًا يقول فيها، فقال: واللَّه لقد علم أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - حرّمها يوم خيبر، وما كنّا مسافحين".
قال السهيليّ: وقد اختُلِفَ في وقت تحريم نكاح المتعة، فأغربُ ما رُوي في ذلك من قال: في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح، كما أخرجه مسلم من حديث الرَّبِيع بن سَبْرة، عن أبيه، وفي رواية عن الربيع، أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال: ومن قال من الرُّواة: كان في غزوة أوطاس، فهو موافق لمن قال: عام الفتح انتهى.
فتحصّل مما أشار إليه ستّة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. قال الحافظ: وبقي عليه حُنين؛ لأنها وقعت في رواية قد نبّهتُ عليها قبلُ، فإما أن يكون ذَهِل عنها، أو تركها عمدًا لخطأ رُواتها، أو لكون غزوة أوطاس، وحنين واحدة.
فأما رواية تبوك، فأخرجها إسحاق بن راهويه، وابن حبّانَ من طريقه، من حديث أبي هريرة:"أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لما نزل بثَنِيَّة الوداع رأى مصابيح، وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول اللَّه، نساء كانوا تمتّعوا منهنّ، فقال: هَدَمَ المتعةَ النكاحُ، والطلاقُ، والميراثُ". وأخرجه الحازميّ من حديث جابر قال: خرجنا مع رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة، قد كنّا تمتّعنا بهنّ يطفن برجالنا، فجاء رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فذكرنا ذلك له، قال: فغضب، وقام خطيبًا، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتواعدنا يومئذ، فسُمّيت ثنيّة الوداع".