للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ماضيه: كَمَلَ -بفتح الميم، وضمّها- ويكمُلُ في مضارعه -بالضمّ- (١) وكمال كلّ شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما هو للَّه تعالى خاصّةً، ولا شكّ أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء، ثم تليهم الأولياء، ويعني بهم الصّدّيقين، والشهداء، والصالحين. وإذا تقرّر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث -يعني به النبوّة، فيلزم أن تكون مريم، وآسية نبيّين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبيّةٌ؛ لأن اللَّه تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، كما اْوحى إلى سائر النبيين. وأما آسية، فلم يرد ما يدلّ على نبوّتها دلالةً واضحةً، بل على صدّيقيّتها، وفضيلتها، فلو صحّت لها نبوّتها لما كان في الحديث إشكال، فإنه يكون معناه: أن الأنبياء في الرجال كثير، وليس في النساء نبيٌّ إلا هاتين المرأتين، ومن عداهما من فُضَلاء النساء صدّيقات، لا نبيّات، وحينئذ يصحّ أن تكونا أفضل نساء العالمين.

والأولى أن يقال: إن الكمال المذكور في الحديث ليس مقصورًا على كمال الأنبياء، بل يندرج معه كمال الأولياء، فيكون معنى الحديث: إن نوعي الكمال وُجد في الرجال كثيرًا، ولم يوجد في النساء المتقدّمات على زمانه - صلى اللَّه عليه وسلم - أكمل من هاتين المرأتين، ولم يتعرض النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في هذا الحديث لأحد من نساء زمانه، إلا لعائشة خاصّةً، فإنه فضّلها على سائر النساء، وُيستثنى منهنّ الأربع المذكورات في الأحاديث المتقدّمة، وهنّ: مريم بنت عمران، وخديجة، وفاطمة، وآسية، فإنهنّ أفضل من عائشة بدليل الأحاديث المتقدّمة في باب خديجة، وبهذا يصحّ الجمع، ويرتفع التعارض، إن شاء اللَّه تعالى انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- (٢).

وقال في "الفتح": قوله: "ولم يكمل من النساء إلا آسية الخ" استُدلّ بهذا الحصر على أنهما نبيّتان؛ لأن أكمل نوع الإنسان الأنبياء، ثم الأولياء، والصدّيقون، والشهداء، فلو كانتا غير نبيّين للزم ألا يكون في النساء وليّةٌ، ولا صدّيقة، ولا شهيدةٌ، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهنّ موجودة، فكأنه قال: ولن يُنبّأ من النساء إلا فلانة، وفلانة، ولو قال: لم تثبت صفة الصدّيقيّة، أو الولاية، أو الشهادة إلا لفلانة، وفلانة لم يصحّ؛ لوجود ذلك في غيرهنّ، إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء، فلا يتمّ الدليل على ذلك لأجل ذلك. واللَّه أعلم. وعلى هذا فالمراد مَن تقدّم زمانه - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولم يتعرض لأحد من نساء زمانه إلا لعائشة، وليس فيه تصريحٌ بأفضلية عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - على غيرها؛ لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير


(١) وذكر في "المصباح" أنه من باب قَرُبَ، وضَرَبَ، وتَعِبَ، لكن باب تعب أردؤها. انتهى.
(٢) "المفهم" ٦/ ٣٣١ - ٣٣٢.