(أحدها): أن محمد بن إسحاق، وشيخه مختلفٌ فيهما. وأجيب بأنهم احتجّوا في عدّة من الأحكام بمثل هذا الإسناد، كحديث:"أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - ردّ على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول"، وليس كلّ مختلف فيه مردودًا.
(الثاني): معارضته بفتوى ابن عبّاس بوقوع الثلاث، كما تقدّم من رواية مجاهد وغيره، فلا يُظنّ بابن عبّاس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، ثم يفتي بخلافه، إلا بمرجّح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى.
وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي، لا برأيه؛ لما يطرأ رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك. وأما كونه تمسّك بمرجّح، فلم ينحصر في المرفوع؛ لاحتمال التمسّك بتخصيص، أو تقييد، أو تأويل، وليس قول مجتهد حجةٌ على مجتهد آخر.
(الثالث): أن أبا داود رجّح أن ركانة إنما طلّق امرأته البتّة، كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليلٌ قويّ؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتّة على الثلاث، فقال: طلّقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عبّاس.
(الرابع): أنه مذهب شاذّ، فلا يُعمل به. وأجيب بأنه نُقل عن عليّ، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له، وعزاه لمحمد بن وضّاح. ونقل الغنويّ ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة، كمحمد بن بقيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن عبد السلام الْخُشَنيّ، وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس، كعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار. ويُتعجّب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم، مع ثبوت
الاختلاف كما ترى.
ويقوّي حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:"كان الطلاق على عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم"، ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجُعل واحدة على عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم"، ومن طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - واحدةً؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر