للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

العلم؛ لظاهر حديث الباب، فإنه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يأذن لتلك المرأة مع أنها مضطرّة إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى خلافه، فجوّزه للضرورة.

قال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، منهم: أبو محمد ابن حزم: لا تكتحل، ولو ذهبت عيناها، ليلاً، ولا نهارًا، ويساعد قولَهم حديث أم سلمة المتّفق عليه: أن امرأة توفّي عنها زوجها، فخافوا على عينها، فأتوا النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فاستأذنوه في الكحل، فما أذن فيه، بل قال: "لا" مرّتين، أو ثلاثًا، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهليّة من الإحداد البليغ سنة، ويصبرون على ذلك، أفلا يصبرون أربعة أشهر وعشرًا. ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب، أو أشدّ منه. وقال بعض الشافعيّة: للسوداء أن تكتحل. وهذا تصرّف مخالفٌ للنصّ، والمعنى، وأحكام رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لا تفرّق بين السُّود والبِيض، كما لا تفرّق بين الطوال والقصار، ومثل هذا القياس بالرأي الفاسد هو الذي اشتدّ نكير السلف له، وذمّهم إياه.

وأما جمهور العلماء، كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرّت إلى الكحل بالإثمد تداويًا، لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلًا، وتمسحه نهارًا. وحجتهم حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتقدّم في الباب الماضي، فإنها قالت في كحل الجلاء: لا تكتحل إلا لما لا بدّ منه، يشتدّ عليك، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. قال: وذكر أبو عمر في "التمهيد" له طرقًا يشدّ بعضها بعضًا، ويكفي احتجاج مالك به، وأدخله أصحاب السنن في كتبهم، واحتجّ به الأئمة، وأقلّ درجاته أن يكون حسنًا.

ولكن حديثها هذا مخالفٌ في الظاهر لحديثها المسند المتّفق عليه، فإنه يدلّ على أن المتوفّى عنها لا تكتحل بحال، فإن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل، لا ليلًا، ولا نهارًا، ولا من ضرورة، ولا غيرها، وقال: "لا" مرّتين، أو ثلاثًا، ولم يقل: إلا أن تضطَرّ. وقد ذكر مالك، عن نافع، عن صفيّة ابنة عبيد، أنها اشتكت عينها، وهي حادّ على زوجها عبد اللَّه بن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها تَرْمَصَان.

قال أبو عمر: وهذا عندي، وإن كان ظاهره مخالفا لحديثها الآخر؛ لما فيه من إباحته بالليل، وقوله في الحديث الآخر: "لا" مرّتين، أو ثلاثًا على الإطلاق أن ترتيب الحديثين -واللَّه أعلم- على أن الشكاة التي قال فيها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا" لم تبلغ - واللَّه أعلم- منها مبلغًا لا بدّ لها فيه من الكحل، فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجةً مضطرّة، تخاف ذهاب بصرها، لأباح لها ذلك، كما فعل بالتي قال لها: "اجعليه بالليل،