تكلّم أهل العلم في حكمة تقديم الوصيّة على الدين في هذه الآية الكريمة، وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١١]. وُيذكر أنّ النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصيّة.
قال في "الفتح": هذا طرف من حديث أخرجه أحمد، والترمذيّ، وغيرهما، من طريق الحارث، وهو الأعور، عن عليّ بن أبي طالب، قال: "قضى محمد - صلى اللَّه عليه وسلم - أن الدين قبل الوصيّة، وأنتم تقرؤون الوصيّة قبل الدين"، لفظ أحمد، وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذيّ: إن العمل عليه عند أهل العلم.
قال: ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدّم على الوصيّة، إلا في صورة واحدة، وهي ما أَبُو أوصى الشخص بألف مثلاً، وصدّقه الوارث، وحكم، ثم ادّعى آخر أن له في ذمّة الميت دينًا يستغرق موجوده، وصدّقه الوارث، ففي وجه للشافعيّة تقدّم الوصيّة على الدين في هذه الصورة الخاصّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الوجه مخالف للنصّ، فالحق أن لا يُلتفت إلى هذا الوجه. واللَّه تعالى أعلم.
قال: ثم قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصيّة مقدّمة على الدين في الآية؛ لأنه ليس فيها صيغة ترتيب، بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين، ونفاذ الوصيّة، وأتى بـ "أو" للإباحة، وهي كقولك: جالس زيدًا أو عمرًا، أي لك مجالسة كلّ منهما، اجتمعا، أو افترقا، وإنما قُدّمت لمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها، واختُلف في تعيين ذلك المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور:
[أحدها]: الخفّة والثقل، كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة، لكن لفظ ربيعة لما كان أخفّ قُدّم في الذكر، وهذا يرجع إلى اللفظ.
[ثانيها]: بحسب الزمان، كعاد وثمود.
[ثالثها]: بحسب الطبع، كثُلاث ورُباع.
[رابعها]: بحسب الرتبة، كالصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة حقّ البدن، والزكاة حقّ المال، والبدن مقدّم على المال.
[خامسها]: تقديم السبب على المسبّب، كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال بعض السلف: عزّ، فلما عزّ حَكَم.
[سادسها]: بالشرف والفضل، كقوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}.
وإذا تقرّر ذلك، فقد ذكر السهيليّ أن تقديم الوصيّة في الذكر على الدين؛ لأن