يمين في قطيعة رحم"، يعني لا يبَرُّ فيها, ولو لم يبين الكفّارة في أحاديثهم، فقد بينها في أحاديثنا، فإن فعل ما نذره من المعصية، فلا كفّارة عليه، كما لو حلف ليفعلنّ معصيةً، ففعلها. ويحتمل أن تلزمه الكفّارة حتمًا؛ لأن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عيّن فيه الكفّارة، ونهى عن فعل المعصية.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الثاني هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، فتأمّل.
والحاصل أن الأرجح وجوب الكفّارة على من نذر أن يفعل معصية، سواء تركها، وهو الواجب عليه، أو فعلها مع حرمتها؛ لإطلاق النصّ. واللَّه تعالى أعلم.
(القسم الخامس): المباح، كلبس الثوب، ورُكوب الدابّة، وطلاق المرأة على وجه مباح، فهذا يتخيّر الناذر فيه بين فعله، فيبَرُّ بذلك؛ لما رُوي أن امرأة أتت النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "أوف بنذرك". رواه أبو داود. ولأنه لو حلف على فعل مباح برّ بفعله، فكذلك إذا نذره؛ لأن الناذر كاليمين، وإن شاء تركه، وعليه كفّارة يمين، ويتخرّج أن لا كفّارة فيه، فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف، أو يصلّي في مسجد معيّن: كان له أن يصلي، ويعتكف في غيره، ولا كفّارة، ومن نذر أن يتصدّق بماله كلّه: أجزأه الصدقة بثلثه بلا كفّارة، وهذا مثله. وقال مالك، والشافعيّ: لا ينعقد نذره؛ لقول النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا نذر إلا فيما ابتغي وجه اللَّه". وقد رَوَى ابن
عبّاس - رضي اللَّه عنهما - قال: بينما النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - يَخْطُبُ، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "مروه، فليجلس، وليستظلّ، وليتكلّم، وليُتمّ صومه"، رواه البخاريّ. وعن أنس - رضي اللَّه عنه - قال: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام، فسئل النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: "إن اللَّه لغني عن مشيها، مروها فلتركب". قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، ولم يأمر بكفّارة. وأن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - رأى رجلاً يُهادى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحجّ ماشيًا، فقال: "إن اللَّه لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب". متّفقٌ عليه، ولم يأمره بكفّارة، ولأنه نذرٌ غير موجب لفعل ما نذره، فلم يوجب كفّارةً، كنذر المستحيل.
قال: ولنا ما تقدّم في القسم الذي قبله، فأما حديث التي نذرت المشي، فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر، ففيه زيادة عند أبي داود، ولفظه: "مروها، فلتركب، ولتكفّر عن يمينها" (١)، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض، وترك البعض، أو يكون النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - ترك ذكر الكفّارة في بعض الحديث إحالةً
(١) ضعيف بهذا اللفظ؛ لأن في سند شريكًا القاضي. وإنما الصحيح بلفظ: "ولتهد هديًا"، أو "ولتهد بدنة". واللَّه تعالى أعلم.