(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الكبيرة:
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا منتشرًا، فروي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنها كلّ ذنب ختمه اللَّه بنار، أو غَضَبٍ، أو لعنةٍ، أو عذابٍ، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصريّ. وقال آخرون: هي ما أوعد اللَّه عليه بنار في الآخرة، أو أوجب فيه حدًّا في الدنيا. قال الحافظ: وممن نصّ على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعيّة الماورديّ، ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجّه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عبّاس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعًا. وأخرج من وجه آخر متّصل لا بأس برجاله أيضًا عن ابن عبّاس، قال:"كلّ ما توعّد اللَّه عليه بالنار كبيرة".
وقد ضبط كثير من الشافعيّة الكبائر بضوابط أخرى، منها: قول إمام الحرمين: كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقّة الديانة. وقول الْحَلِيميّ: كلّ محرّم لعينه، منهيّ عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحدّ. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب، أو سنّة.
هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى كلامه.
وقد استُشكل بأن كثيرًا مما وردت النصوص بكونه كبيرةً لا حدّ فيه، كالعقوق. وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نصٌّ بكونه كبيرةً. وقال ابن عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة، لا يَسلَم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يُشعر بتهاون مرتكبها بدينه، إشعارَ أَدْوَنِ الكبائر المنصوص عليها. قال الحافظ: وهو ضابط جيّد. وقال القرطبيّ في "المفهم": الراجح أن كلّ ذنب نصّ على كبره، أو عظمه، أو توعّد عليه بالعقاب، أو عُلِّق عليه حدّ، أو شدّد النكير عليه، فهو كبيرة. وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أوّلًا عن ابن عبّاس، وزاد إيجاب الحدّ. وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم يُنصّ على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحديّ: ما لم ينصّ الشارع على كونه كبيرة، فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر، وساعة الجمعة، والاسم الأعظم. واللَّه أعلم (١).