سبيلَهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في هذه الآيات، ثم عرّف عباده سنّته فيهم، فيكون داخلًا في ذلك كلُّ من كان مؤمنًا بمحمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قبل أن يُبعَث، ثم كفر به بعد أن يُبعث، وكلّ من كان كافرًا، ثم أسلم على عهده - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم ارتدّ، وهو حيّ عن إسلامه، فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين، وغيرهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء اللَّه.
فتأويل الآية إذًا:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}[آل عمران: ٨٦ - ٨٩] يعني كيف يرشد اللَّه للصواب، ويوفّق للإيمان قومًا جحدوا نبوّة محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} أي بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربّه {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إلى خلقه حقًا {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني وجاءهم الْحُجَج من عند اللَّه، والدلائل بصحّة ذلك؟ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يقول: واللَّه لا يوفّق للحقّ، والصواب الجماعة الظَّلَمة، وهم الذين بدّلوا الحقّ إلى الباطل، فاختاروا الكفر على الإيمان. {خَالِدِينَ فِيهَا} يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ {جَزَاؤُهُمْ} ثوابهم من عملهم الذي عملوه {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} يعني أن يحلّ بهم من اللَّه الإقصاء والبعد، ومن الملائكة، والناس الدعاء بما يسوؤهم من العقاب {أَجْمَعِينَ} يعني من جميعهم، لا من بعض من سمّاه جلّ ثناؤه من الملائكة، والناس، ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جلّ ثناؤه ثواب عملهم؛ لأن عملهم كان باللَّه كفرًا. {خَالِدِينَ فِيهَا} يعني ماكثين فيها يعني في عقوبة اللَّه {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}: لا يُنقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا يُنفّسون فيه {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: يعني: ولا هم يُنظرون لمعذرة يعتذرون، وذلك كلّه عين الخلود في العقوبة في الآخرة. ثم استثنى جلّ ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، فقال تعالى ذكرُهُ:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان باللَّه، وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيّهم - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من عند ربّهم، {وَأَصْلَحُوا} يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني: فإن اللَّه لمن فَعَلَ ذلك بعد كفره "غفورٌ" يعني ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه "رحيم" متعطّفٌ عليه بالرحمة. انتهى كلام ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى-. انتهى (١). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.