للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تدعو اللَّه لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يَصُدُّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه، من عظم، أو عَصَب، وما يصدّه ذلك عن دينه، واللَّه ليَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللَّه، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

فوصفه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات اللَّه، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطّنوا الإيمان؛ ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب، والقتل، والْهَوَان، على الرخصة، والمقام بدار الجنان. ذكره القرطبيّ (١). وهو تحقيق حسن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الإكراه:

قال في "الفتح": أخرج عبد بن حُميد بسند صحيح عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -

قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه، إذا سُجن، أو أُوثق، أو عُذب". ومن طريق شُريح نحوه، وزيادة، ولفظه: "أربع كلّهنّ كره: السجن، والضرب، والوعيد، والقيد". وعن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: "ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلّما به". وهو قول الجمهور. انتهى (٢).

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ بعد ذكر نحو ما تقدّم: وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن اللَّه تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة. وقال النخعيّ: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوّف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقّق ظلم ذلك المتعدّي، وإنفاذه لما يتوعّد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخُل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه.

وتناقض الكوفيّون، فلم يجعلوا السجن، والقيد إكراهًا على شرب الخمر، وأكل الميتة؛ لأنه لا يُخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراهًا في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سُحنون: وفي إجماعهم على أن الألم، والوجع الشديد إكراه ما يدلّ على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أُكره على يمين بوعيد، أو سجن، أو ضرب أنه يحلف، ولا حِنث عليه، وهو قول الشافعيّ، وأحمد،


(١) "الجامع لأحكام القرآن" ١٠/ ١٨٨ - ١٨٩.
(٢) "فتح" ١٤/ ٣٢٥.