للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته؛ لأن من شأن السابّ إبداء عورة المسبوب. قاله في "الفتح" (١) (فُسُوقٌ) أي خروج عن الذي يجب من احترام المسلم، وحرمة عرضه، وسبّه. أو هو من أعمال أهل الفسوق. و"الفسق" في اللغة: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة اللَّه تعالى، وطاعة رسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال اللَّه تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: ٧].

ولا متمسّك في هذا الحديث للخوارج الذين يُكفرون بالمعاصي؛ لأن ظاهره غير مراد؛ وإنما عبر بلفظ الكفر لكون القتال أشدّ من السباب؛ لأنه يفضي إلى إزهاق الروح، ولم يُرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملّة، بل أطلق عليه الكفر مبالغةً في التحذير، معتمدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرج عن الملّة، مثلُ حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} الآية [النساء: ٤٨]. أو أطلق عليه الكفر؛ لشبهه به؛ لأن قتال الموْمن من شأن الكافر. وقيل: المراد هنا الكفر اللغويّ، وهو التغطية؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن يُعينه، ويَنصره، ويكُفّ عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطّى على هذا الحقّ. وقيل: أراد بقوله "كفر" أي قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحلّ لذلك؛ لأنه يلزم منه أن لا يحصُل التفريق بين السباب والفسوق، فإن مستحلّ لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أولى ما قيل في معنى هذا الحديث أنه أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير من ذلك؛ لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه؛ لأن ذلك من فعل الكفّار (٢).

ويأتي هذا في توله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كُفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، كما سيأتي بيان الأقوال التي قيلت في تأويه، وهي عشرة أقوال، في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. ونظير هذا قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ} الآية [البقرة: ٨٥]، فدلّ على أن بعض الأعمال يُطلق عليه الكفر تغليظا. وأما قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - فيما رواه مسلم: "لعن المسلم كقتله"، فلا يُخالف هذا الحديث؛ لأن المشبّه به فوق المشبّه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ


(١) راجع "الفتح" ١/ ١٢١ و ١٥٤ - "كتاب الإيمان". حديث رقم ٣٠ و ٤٨.
(٢) راجع "الفتح" ١٤/ ٥٢١.