هَذَا التَّأوِيل الَّذِي نهجت إِليهِ، فيرتفِع بِذلِك الإشكال، ولا يبقى بين حدِيثي أبي هريرة، وعُبادة تعارُض، ولا وجه بعد ذَلِكَ لِلتوقفِ فِي كون الحُدُود كَفَّارة.
[واعلم]: أنَّ عُبادة بن الصَّامِت، لم يتفرِد بِرِوايةِ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ روى ذَلِكَ عليّ بن أبِي طالِب رضي الله تعالى عنه، وهُو فِي التِّرمِذِيّ، وصحَّحهُ الحاكِم، وفِيهِ:"منْ أصاب ذنبا، فعُوقِب بِهِ فِي الدُّنيا، فالله اكرم منْ أن يُثنِّي العُقُوبة عَلَى عبده فِي الآخِرة"، وهُو عِند الطَّبرانِيّ بِإِسْنادٍ حسن، منْ حدِيث أبي تمِيمة الْهُجيمِيّ. ولِأحمد منْ حدِيث خُزيمة بن ثابِت، بِإِسنادٍ حسن، ولفظه:"منْ أصاب ذنبًا، أُقِيم عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْب، فهُو كَفَّارة لهُ". ولِلطَّبرانِيّ عن ابن عمرو مرفُوعًا:"ما عُوقِب رجُل عَلَى ذنب، إِلا جعلهُ الله كَفَّارة لِما أصاب، منْ ذَلِكَ الذَّنْب".
قَالَ الحافظ: وإِنما أطلت فِي هَذَا الموضِع؛ لِأننِي لم أر منْ أزال اللبس فِيهِ عَلَى الوجه المرضِي، والله الهادِي. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جداً، أجاد فيه، وأفاد، فجزاه الله تعالى عليه أحسن الجزاء.
وقوله أيضًا (فعُوقِبَ بِهِ) قَالَ ابن التين: يُرِيد بِهِ القطع فِي السَّرِقة، والجلد، أو الرَّجْم فِي الزِّنا. قَالَ: وأمَّا قتل الولد، فليس لهُ عُقُوبة معلُومة، إِلا أن يُرِيد قتل النَّفس، فكنَّى عنهُ. قَالَ الحافظ. وفِي رِواية الصُّنابِحِيّ، عن عُبادة، فِي هَذَا الحدِيث:"ولا تقتُلُوا النَّفْس الَّتِي حرّم الله إِلا بالحقِّ"، ولكِن قوله فِي حدِيث الْبَاب:"فعُوقِب بهِ"، أَعَمّ منْ أن تكُون العُقُوبة حدًّا، أو تعزِيرًا. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "كفّارة له": هَذَا حجة واضحة لجمهور العلماء عَلَى أن الحدود كفارات، فمن قتل، فاقتُصّ منه لم يبق عليه طلبة فِي الآخر؛ لأن الكفّارات ماحيةٌ للذنوب، ومُصيِّرةٌ لصاحبها كأن ذنبه لم يكن، وَقَدْ ظهر ذلك فِي كفارة اليمين والظهار، وغير ذلك، فإن بقي مع الكفارة شيء منْ آثار الذنب لم يصدُق عليها ذلك الاسم. وَقَدْ سمعنا منْ بعض علماء مشايخنا أن الكفّارة إنما تكفّر حق الله تعالى، ويبقى عَلَى القاتل حقّ المقتول، يطلبه به يوم القيامة، وتطّرد هذه الطريقة فِي سائر حقوق الآدميين. قَالَ القرطبيّ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تخصيص لعموم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره منْ اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقُتل، فقد فُعل به مثلُ ما فعل، منْ إيلام نفسه، واستباحة دمه، فلم يبق عليه شيء، وهذا معنى القصاص. انتهى كلام القرطبيّ (١).