للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

التَّوكُّل، فلا يكُون لهُ قوَّة عَلَى دفع اعْتِقاد الْعَدْوى، فأُرِيد بِذلِك سدُّ بَاب اعتِقاد الْعَدْوى عنهُ، بِأن لا يُباشِر ما يكُون سببًا لإثباتها.

وقرِيب مِن هَذَا كراهِيته -صلى الله عليه وسلم- الكيّ، مع إِذنه فِيهِ، وَقَدْ فَعَل هُو -صلى الله عليه وسلم- كُلاً منْ الأمْرَيْنِ؛ لِيتَأسَّى بهِ كُلّ منْ الطَّائِفتينِ.

(ثَالِث المَسَالِك): قَالَ القاضي أبُو بَكْر الباقِلَّانِيّ: إِثبات الْعَدْوي فِي الجُذام ونَحْوه، مخصُوص منْ عُمُوم نفي العدوي، قَالَ: فيكُون معنِي قوله: "لا عَدْوَى": أي إِلا منْ الجُذام، والْبَرَص، والجرب مثلاً، قَالَ: فكأنَّهُ قَالَ: لا يُعْدِي شَيْء شيئًا، إِلَّا ما تقدَّم تَبْيِينِي لهُ أنَّ فِيهِ العَدْوي. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابن بطَّال.

(رابعها): أنّ الأمر بِالفِرارِ منْ المجذُوم، ليس منْ باب العدوي فِي شيْء، بل هُو لأمْرٍ طبِيعِيّ، وهُو انتِقال الدَّاء منْ جسد لِجسدٍ، بِواسِطةِ المُلامَسَة، والمُخَالطَة، وشمِّ الرَّائِحة، ولِذَلِك يقع فِي كثِير منْ الأمْراض فِي العَادَة، انتِقال الدَّاء منْ المرِيض إِلى الصَّحِيح، بكثرةِ المُخَالطة، وهذِهِ طرِيقة ابن قتيبة، فقال: المجذوم تشتدّ رائِحته، حَتَّى يُسقِم منْ أطال مُجالَسَته، ومُحادثته، ومُضَاجَعته، وكذا يقع كثِيرًا بالمرأةِ منْ الرَّجُل وعكسه، وينزع الولد إِليهِ، ولِهذا يأمُر الأطِباء بِتركِ مُخالطة المجذوم، لا عَلَى طرِيق العدوي، بل عَلَى طرِيق التَّأثُّر بِالرَّائِحةِ؛ لأنَّها تُسْقِم منْ واظب اشْتِمَامهَا، قَالَ: ومن ذَلِكَ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُورِد مُمْرض علىِ مُصِحّ"؛ لأنَّ الجرب الرَّطْب، قد يكُون بِالْبعِيرِ، فاِذا خالط الإبِل، أو حَكَّكَهَا، وأوى إِلى مبارِكها، وَصْل إِليْهَا بالماءِ الَّذِي يسِيل مِنْهُ، وكذا بِالنَّظرِ نحو ما بِهِ. قَالَ: وأمَّا قوله: "لا عدوى"، فَلهُ مَعْنًى آخر، وهُو أنْ يقع المَرَضْ بمكانٍ، كالطَّاعُونِ، فيفِرّ مِنْهُ مخافة أن يُصِيبهُ، لأنَّ فيهِ نوعًا منْ الفِرار، منْ قَدَر الله.

(المَسْلَك الخَامِس): أن المراد بِنفيِ العدوي، أنَّ شيئًا لا يُعدِي بطبعِهِ، نفيًا لِما كانت الجاهِليَّة تعتقِدهُ، أنَّ الأمراض، تُعدِي بِطبعِها منْ غير إِضافة إِلى الله، فأبطل النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-, اعتِقادهم ذَلِكَ، وأكل مع المجذوم؛ لِيُبيِّن لهُم أنَّ الله هُو الّذِي يُمرِض، وَيَشْفِي، وَنَهَاهُم عن الدُّنُو مِنه؛ لِيُبين لهُمْ أن هَذَا منْ الأسباب الَّتِي أجرى الله العادة بِأنَّها تُفْضِي إِلى مُسَبَّبَاتهَا، ففِي نهيه إِثبات الأسباب، وفِي فِعله إِشاِرة إِلى أنَّها لا تستقِل، بَلْ الله هُو الَّذِي إنْ شاء سلبها قُواها، فلا تُؤثِّر شيئًا، وإن شاء أبقاها، فأثَّرْت، وَيَحْتَمِل أيْضًا أنْ يَكُون أَكْله -صلى الله عليه وسلم- مع الْمَجْذوم؛ أَنَّهُ كَانَ بِهِ أمر يَسيرٌ، لا يُعدِي مِثْله فِي العادة، إذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهم سواء، ولا تَحصُل العدوَي منْ جميعهم، بَلْ لا يحصُل مِنْهُ فِي العادة عَدْوى أصْلا، كالذِي أصَابَهُ شَيْء منْ ذَلِكَ، وَوَقَف فَلَمْ يعُد بقِيَّة جِسمه، فلا يُعْدِي. وَعَلى الاحْتِمَال الأوَّل جَرَى أَكْثَر الشَّافِعِيَّة، قَالَ الْبَيْهقِيُّ بَعْد أن أوْرَدَ قَوْل الشَّافِعِيّ: ما