للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

صلّى الله تعالى عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، ففي هَذَا إشعارٌ بأن مبايعة الأعرابيّ المذكور كانت قبل الفتح.

(ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ) أي منْ المدينة قصدًا لإقالة أثر البيعة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ) بكسر الكاف: زِقّ الْحَدّاد الذي يَنفُخ به، ويكون أيضاً منْ جِلْد غليظ، وله حافاتٌ، وجمعه كِيَرَةٌ، مثلُ عِنَبَة، وأَكيارٌ. وَقَالَ ابن السّكّيت: سمعتُ أبا عمرو يقول: الْكُورُ بالواو: المبنيّ منْ الطين، والكِير بالياء: الزِّقّ، والجمع أكيارٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا تشبيه واقعٌ؛ لأن الكبير لشدّة نفخه ينفي عن النار السُّخَام (١)، والدخان، والرماد، حتى لا يبقى إلا خالص الجمر والنار. هَذَا إن أراد بالكير المِنفَخ الذي تُنفخ به النار، وإن أراد به الموضع المشتمل عَلَى النار، وهو المعروف عند أهل اللغة، فيكون معناه: أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خَبَثَ الحديد، والذهب، والفضّة، ويُخرج خلاصة ذلك، والمدينة كذلك؛ لما فيها منْ شدّة العيش، وضيق الحال تخلّص النفس منْ شهواتها، وشرَهها، ومَيلها إلى اللذّات، والمستحسنات، فتتزكّى النفس عن أدرانها، وتبقى خلاصتها، فيظهر سرّ جوهرها، وتعُمّ بركاتها. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لما فيها منْ شدّة العيش الخ" فيه نظر؛ إذ لو كَانَ لذلك لكان كلّ بلد فيه شدّة عيش، وخشونة حال أن يكون كذلك، فلا يكون للمدينة فضلٌ أصلاً، بل الحق أن ذلك لخصوصيّة المدينة، وما جعل الله تعالى فيها منْ السرّ العظيم، حيث كانت مُهاجَرَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، ومهبط وحيه، فتنفي الأشرار، وتبقي الأخيار. والله تعالى أعلم.

(تَنْفِي) بفتح أوله: أي تُخرج (خَبَثَهَا) بمعجمة، وموحّدة، مفتوحتين (وَتَنْصَعُ) بفتح أوله، وسكون النون، وبالمهملتين، منْ النُّصُوع، وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبت تميّز الطيب، واستقرّ فيها (طِيبَهَا) قَالَ فِي "الفتح": ضبطه الأكثر بالنصب عَلَى المفعوليّة، وفي رواية الكشميهني بالتحتانيّة أوله، ورفع "طيبها" عَلَى الفاعليّة، و"طَيّبها" للجميع بالتشديد. وضبطه القزّاز بكسر أوله، والتخفيف، ثم استشكله، فقال: لم أر للنصوع فِي الطيب ذكراً، وإنما الكلام يتضوّع بالضاد المعجمة، وزيادة الواو الثقيلة، قَالَ: ويروى "وتنضخ" بمعجمتين. وأغرب الزمخشريّ فِي "الفائق"، فضبطه بموحّدة،


(١) "السُّخام" كالغُراب: الفحم، وسواد القدر. اهـ ق.