بقتلها. قالوا: وَقَدْ رخّص فِي كلب الصيد، ولم يخصّ أسود بهيمًا منْ غيره. وَقَدْ قالوا: إن الأسود البهيم منْ الكلاب أكثرها أذّى، وأبعدها منْ تعليم ما ينفع، ولذلك رُوي أن الكلب الأسود شيطان. أي بعيد منْ المنافع، قريبٌ منْ المضرّة والأذى، وهذه أمورٌ لا تُدرك بنظر، ولا يوصل إليها بقياس، وإنما يُنتهى فيها إلى ما جاء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم.
قَالَ أبو عمر: قد اضطربت ألفاظ الأحاديث فِي هَذَا المعنى، فمنها ما يدلّ عَلَى النسخ، ومنها ما يدلّ عَلَى الأمر بالقتل فيما عدا المستثنى.
قَالَ: وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز قتل شيء منْ الكلاب، إلا الكلب العقور، وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخ بنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتّخذ شيء فيه الروح غَرَضًا، وبقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: خمس منْ الدوابّ يُقتلن فِي الحلّ والحرم، فذكر منهن الكلب العقور، فخصّ العقور، دون غيره؛ لأن كلّ ما يَعقر المؤمن، ويؤذيه، ويقدر عليه، فواجب قتله، وَقَدْ قيل: العقور هاهنا الأسد، وما أشبهه منْ عقارة سباع الوحش. واحتجوا أيضاً بما أخرجه الشيخان منْ قصّة الرجل الذي سقى كلبًا يلهث منْ العطش، فشكر الله له ذلك، فغفر له، وبما أخرجاه أيضاً منْ قصّة المرأة البغيّة، نزعت موقها، فسقت كلبًا فِي يوم حارّ، يُطيف بركيّة، قد ادلع لسانه منْ العطش، فغفر لها. قَالَ أبو عمر: والذي أختاره أن لا يُقتل شيء منْ الكلاب، إذا لم تضرّ بأحد، ولم تعقر أحدًا لنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتخذ شيء فيه الروح غرضًا، وما ذكرنا له منْ حجة منْ اخترنا قوله.
قَالَ: ومن الحجة أيضًا لما ذهبنا إليه فِي أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، ترك قتلها فِي كلّ الأمصار، عَلَى اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله تعالى، وفيهم العلماء، والفضلاء إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. انتهى المقصود منْ كلام ابن عبد البرّ (١).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي هو ما رجّحه القَاضي عياض رحمه الله تعالى -منْ أنّ النَّهي أوَّلاً كَانَ نهَيًا عَامًّا، عَن اقتِنَاء جَميعها، وَأَمَرَ بِقَتْلِ جمَيعهَا، ثُمَّ نَهَى عَن قَتْلهَا مَا سِوَى الأسْوَد، وَمَنَعَ الاقْتِنَاء فِي جَمِيعهَا، إِلَّا كَلْب صَيْد، أَوْ زَرْع، أَو مَاشِيَة. وَهَذَا هُوَ ظَاهِر الأَحَادِيث، وَيَكُون حدِيث ابن المغفَّل رضي الله تعالى عنه مَخصُوصًا بِمَا سِوَى الأَسوَد؛ لِأَنه عَامّ، فَيَخُصّ مِنْهُ الأَسوَد بِالحَدِيثِ الآخَر.
والحاصل أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، وأن اقتناءها لا يجوز، إلا ما استثناه