بابًا، إن شاء الله تعالى.
ووجهه أنهم أكلوا منْ لحم الحوت نصف شهر، وأكل منه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالباً بلا نتن فِي تلك المدة، لاسيما فِي الحجاز، مع شدّة الحرّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن يحتمل -كما قَالَ فِي "الفتح"- أن يكونوا ملّحوه، وقدّدوه، فلم يدخله نتن، وبهذا لا يتمّ الاستدلال به عَلَى صرف النهي عن التحريم إلى التنزيه.
والحاصل أن حمل النهي منْ أكل الصيد، إذا أنتن عَلَى التحريم، هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، وأما حمله عَلَى التنزيه، فيحتاج إلى دليل صريح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -٢٠/ ٤٣٠٥ - وفي "الكبرى" ٢٢/ ٤٨١٥. وأخرجه (م) فِي "الصيد" ٣٥٦٨ و٣٥٦٩ (د) فِي "الصيد" ٢٨٦١ (أحمد) فِي "مسند الشاميين" ١٧٢٨٤. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أنه اسْتُدِلَّ بِالحديث عَلَى أَنَّ الرَّامِي لَوْ أَخَّرَ الصَّيد، عَقِب الرَّمْي إلَى أنْ يَجِدهُ حَلّ بِالشُّرُوطِ المُتَقَدِّمة، وَلا يَحْتَاج إِلَى اسْتِفْصَال، عَن سَبَب غَيْبَته عَنهُ، أكَانَ مَعَ الطَّلَب، أَوْ عَدَمه.
قَالَ الحافظ: لَكِنْ يُسْتدلّ لِلطَّلَب بِمَا وَقَعَ فِي الرواية السابقة التي علّقها البخاريّ، حَيْثُ قَالَ: "فَيَقْتَفِي أَثَره"، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الْجَوَاب خَرَجَ عَلَى حَسَب السُّؤَال، فَاخْتَصَرَ بَعْض الرُّوَاة السُّؤَال، فَلَا يُتَمَسَّكُ فِيهِ بِتَرْكِ الاسْتِفْصَال.
واخْتَلَفَ المشترطون للطَّلَب فِي صفته: فَعَن أَبِي حَنِيفَة: إِنْ أَخَّرَ سَاعَة، فَلَمْ يَطْلُب، لم يَحِلّ، وإنْ اتَّبَعَهُ عَقِب الرَّمْي، فَوَجَدَهْ مَيِّتًا حَلَّ. وَعَن الشَّافِعِيَّة، لابُدّ أَنْ يَتْبَعهُ. وَفِي اشْتِرَاط الْعَدْو وَجْهَانِ: أَظْهَرهُمَا يَكْفِي المَشْي عَلَى عَادَته، حَتَّى لو أَسْرَعَ وَجَدَهُ حَيًّا حَلَّ، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لَابُدّ منْ الإسْرَاع قَليلاً؛ لِيَتَحَقَّق صُورَة الطَّلَب. وَعِند الحَنَفِيَّة نَحْو هَذَا الاخْتِلَاف. قاله فِي "الفتح" (١).
(١) "فتح" ١١/ ٣٤ - ٣٥ "كتاب الذبائح".