للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

كَانَ بَعْد الهِجْرَة منْ مَكَّة، بِأَكْثَر مِنْ سِتّ سِنِينَ، فَلَوْ فَهِمَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- منْ الآيَة المَنْع، لَمَا أَذِنَ فِي الأَكْل. وَأَيْضًا فَآيَة النَّحْل لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْع الأَكْل، وَالْحَدِيث صَرِيح فِي جَوَازه. وَأَيْضًا عَلَى سَبِيل التَّنَزُّل، فَإِنَّمَا يَدلّ مَا ذُكِرَ عَلَى تَرْك الأَكْل، وَالتَّرْك أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون لِلتَّحْرِيم، أَوْ لِلتَّنزِيهِ، أَوْ خِلَاف الأَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَاحِد مِنْهَا، بَقِيَ التَّمَسُّك بِالأَدِلَّةِ الْمُصَرَّحَة بالْجَوَازِ.

وَعَلَى سَبِيل التَّفْصِيل: أَمَّا أوَّلاً، فَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ اللام لِلتَّعْلِيلِ، لَمْ نُسَلِّم إِفَادَة الْحَصْر فِي الرُّكُوب، وَالزِّينَة، فَإِنَّهُ يُنْتَفَع بِالْخَيْلِ فِي غَيْرهمَا، وَفِي غَيْر الأَكْل اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الرُّكُوب وَالزِّينَة؛ لِكَوْنِهمَا أَغْلَب مَا تُطْلَب لَهُ الْخَيْل، وَنَظِيره حَدِيث الْبَقَرَة المَذْكُور فِي "الصَّحِيحَيْنِ" حِين خَاطَبَتْ رَاكِبهَا، فَقَالَتْ: "إِنَّا لَمْ نُخْلَق لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقنَا لِلْحَرْثِ"، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنه أَصَرْح فِي الْحَصْر، لَمْ يُقصَد بِهِ الأَغْلَب (١)، وَإلا فَهِيَ تُؤْكَل، وَيُنْتَفَع بِهَا فِي أَشْيَاء، غَيْر الحَرْث اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا فَلَوْ سَلِمَ الاسْتِدْلال، لَلَزِمَ مَنْعُ حَمْل الأثْقَال عَلَى الْخَيْل، وَالْبِغَال، وَالْحَمِير، وَلا قَائِل بهِ.

وَأمَّا ثَانِيًا: فَدَلَالَة الْعَطْف إِنَّمَا هِيَ دَلَالَة اقْتِرَان، وَهِيَ ضَعِيفَة.

وَأمَّا ثَالِثًا: فَالامْتِنَان، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ غَالِبًا، مَا كَانَ يَقَع بِهِ انْتِفَاعهمْ بِالْخَيْلِ، فَخُوطِبُوا بِمَا أَلِفُوا، وَعَرَفُوا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَكْل الْخَيْل؛ لِعِزَّتِها فِي بِلَادِهِمْ، بخِلَافِ الأَنْعَام، فَإِنَّ أَكثَر انْتِفَاعهمْ بِهَا كَانَ لِحَمْل الأَثْقَال، وَلِلأَكْلِ، فَاقْتُصِرَ فِي كَلّ منْ الصِّنْفَيْنِ، عَلَى الامْتِنَان بِأَغْلَب مَا يُنتَفَع بِهِ، فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَصْر، فِي هَذَا الشِّقّ، لَلَزِمَ مِثْله فِي الشِّقّ الآخَر.

وَأمَّا رَابِعًا، فَلَوْ لَزِمَ منْ الإذْن فِي أَكْلهَا، أنْ تَفْنَى لَلَزِمَ مِثْله فِي الْبَقَر وَغَيْرهَا، مِمَّا أُبِيحَ أَكْله، وَوَقَعَ الامْتِنَان بِمَنْفَعَةٍ لَهُ أُخْرَى. وَالله أَعْلَم. انتهى ما فِي "الفتح" (٢).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحث الذي طوّل به الحافظ نفسه، بحث نفيسٌ مهمّ جدًّا.

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور، منْ حلّ أكل لحوم الخيل هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وصراحتها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

٤٣٣٠ - (أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ").


(١) هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن الصواب: "إلا الأغلب" بزيدة أداة الاستثناء، فليُتأمّل.
(٢) "فتح" ١١/ ٨٢ - ٨٦. "كتاب الذبائح" رقم الْحَدِيث ٥٥٢٠.