وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختُلف فِي وجه النهي عن التلقي، فقيل: ذلك لحقّ الله تعالى، وعلى هَذَا، فيُفسخ البيع أبدًا، وَقَالَ به بعض أصحابنا، وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر. والجمهور: عَلَى أنه لحقّ الآدمي؛ لما يدخل عليه منْ الضرر، ثم اختلفوا فمن يرجع إليه هَذَا الضرر، فَقَالَ الشافعيّ: هو البائع، فيدخل عليه ضرر الغبن، وعلى هَذَا، فلو وقع لم يُفسخ، ويكون صاحبه بالخيار، وعلى هَذَا يدلّ ظاهر الْحَدِيث، فإنه قَالَ فيه:"إذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار". وَقَالَ مالك: بل هم أهل السوق بما يدخل عليهم منْ غلاء السلع، ومقصود الشرع الرفقُ بأهل الحاضرة، كما قد قَالَ:"دع النَّاس يرزق الله بعضهم منْ بعض"، وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبت عنده أنها منْ قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعلى قول مالك فلا يُفسخ، ولكن يخيّر أهل السوق، فإن لم يكن سوقٌ، فأهل العصر بالخيار، وهل يدخل المتلقّي معه، أو لا؟ قولان، سبب المنع عقوبته بنقيض قصده. وَقَدْ أجاز أبو حنيفة، والأوزاعي التلقّي إلا أن يضرّ بالناس، فيكره، وهذه الأحاديث حجةٌ عليهما. انتهى "المفهم" ٤/ ٣٦٦ - ٣٦٧.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب ما قاله الشافعيّ رحمه الله تعالى منْ أن النهي لحقّ البائع، وأن له الخيار؛ لموافقته للنصّ الصحيح الصريح:"فإذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار"، فإنه يدلّ عَلَى أن البائع هو سبب النهي، وأن البيع إذا أجازه جاز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم هل يُقدّر النهي عن التلقّي بمسافة، أم لا:
قَالَ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله تعالى: ظاهر الْحَدِيث أنه لا فرق فِي النهي عن التلقّي بين أن تكون المسافة التي يُتلقّى إليها قريبة، أو بعيدة، وهو الذي يقتضيه إطلاق أصحابنا، وغيرهم، وقيد المالكية محل النهي بحدّ مخصوص، واختلفوا فِي ذلك الحدّ، فَقَالَ بعضهم: ميل. وَقَالَ بعضهم: فرسخان. وَقَالَ بعضهم: يومان، وهو معنى ما رواه أبو قرّة، عن مالك أنه قَالَ: إني لأكره تلقي السلع، وأن يُبلغ به أربعة برود. انتهى. فإن زادت المسافة عَلَى ذلك لم تدخل تحت النهي، وقيل لمالك: أرأيت إن كَانَ ذلك عَلَى رأس ستة أميال؟ فَقَالَ: لا بأس بذلك، وكأن ذلك جاز عَلَى طريقته فِي أن النظر لأهل البلد، وإنما تتشوّف أطماعهم لمن قرُب منهم، وأما البعيد، فلا تشوّف لهم إليه، ولعلّ النظر فِي تحديد القرب للعرف. وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه منهيّ عنه إذا كَانَ بحيث لا تقصر الصلاه إليه، فإن تلقّاها بحيث تقصر الصلاة، فصاعدًا، فلا بأس بذلك. انتهى "طرح التثريب" ٦/ ٦٧ - ٦٨.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختلف أصحابنا -يعني المالكية-