قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: هَذَا الخلاف شاذّ متقدّم، مرجوع عنه، كما قد نصّ عليه هنا منْ رجوع ابن عمر، وابن عبّاس -رضي الله عنهم- عنه، وممن قَالَ بقولهما منْ السلف: عبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأُسامة بن زيد، ولا شكّ فِي معارضة هَذَا الْحَدِيث لحديث عبادة، وأبي سعيد، وغيرهما، فإنها نصوصٌ فِي إثبات ربا الفضل، ولَمّا كَانَ كذلك اختلف العلماء فِي كيفيّة التخلّص منْ ذلك عَلَى أوجه، أشبهها وجهان:
[أحدهما]: أن حديث ابن عبّاس منسوخٌ بحديث عبادة، وأبي سعيد، غير أنهم لم ينقلوا التاريخ صريحًا، وإنما أخذوه منْ رجوع ابن عبّاس عن ذلك، ومن عمل الجمهور منْ الصحابة، وغيرهم، منْ علماء المدينة عَلَى خلاف فِي ذلك.
قَالَ القرطبيّ: وهذا لا يدلّ عَلَى النسخ، وإنما يدلّ عَلَى الأرجحيّة.
[وثانيهما]: أن قوله: "لا ربا إلا فِي النسيئة" إنما مقصوده نفي الأغلظ الذي حرّمه الله بنصّ القرآن، وتوعّد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربًا لله، وذلك بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى آخر الآيات [البقرة: ٢٧٥ - ٢٨١] وما كانت العرب تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي: أي تزيد فِي الدين، وهذا هو الذي نسخه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، لَمّا قَالَ: "ألا إن كلّ ربا موضوع، وإن أول ربا أضعُهُ ربانا، ربا عباس"، متّفقٌ عليه. وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبيّ الله، ولا عالم فِي البلد إلا زيد، ومثله كثير، يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل، وهذا واضح، ومما يقرب فيه هَذَا التأويل جدًّا رواية منْ روى: "لا ربا فيما كَانَ يدًا بيد": أي لا ربا كثيرٌ، أو عظيمٌ، كما قَالَ: "لا صلاة لجار المسجد، إلا فِي المسجد" (١): أي لا صلاة كاملة.
قَالَ: ويظهر لي وجهٌ آخر، وهو حسنٌ، وذلك أن دلالة حديث ابن عبّاس عَلَى نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالةٌ بالمنطوق، ودلالة المنطوق راحجة عَلَى دلالة المفهوم، باتّفاق النُّظّار. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف "المفهم" ٤/ ٤٨٤ - ٤٨٥.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فِي "شرح مسلم": أما حديث أسامة: "لا ربا إلا فِي
(١) حديث ضعيف رواه البيهقيّ، والدارقطنيّ، والحاكم.