قَالَ القرطبيّ: وهو مذهب الجمهور، ومنع منْ ذلك الكوفيّون، وهذا الْحَدِيث الصحيح حجة عليهم، واستثنى منْ الحيوان أكثر العلماء الجواريَ، فمنعوا قرضهنّ؛ لأنه يؤدّي إلى عارية الفروج، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردّ غيرها، وأجاز ذلك مطلقًا الطبريّ، والمزنيّ، وداود الأصبهانيّ، وقصر بعض الظاهريّة جواز القرض عَلَى ما له مثلٌ منْ المعيّن، والمكيل، والموزون، وهذا الْحَدِيث حجة عليهم. انتهى "المفهم" ٤/ ٥٠٦.
(ومنها): ما قَالَ القرطبيّ: قوله: "اشتروا له سنّا الخ" دليلٌ عَلَى أن هَذَا الْحَدِيث قضيّة أخرى، غير قضيّة حديث أبي رافع، فإن ذلك الْحَدِيث يقتضي أنه أعطاه منْ إبل الصدقة، وهذا اشتُري له. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى صحة الوكالة فِي القضاء. (ومنها): أن فيه جوازَ الزيادة فِي القضاء، وَقَدْ تقدّم تفصيله، وذكر الخلاف فيه.
(ومنها): أن فيه بيان حسنِ خلق النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعظم حلمه، وتواضعه، وإنصافه، وقوة صبره عَلَى الجفاء، مع القدرة عَلَى الانتقام، وأن منْ عليه دين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق، وأن منْ أساء الأدب عَلَى الإِمام، كَانَ عليه التعزير بما يقتضيه الحال، إلا أن يعفو صاحب الحق. قاله فِي "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تأويل قضائه -صلى الله عليه وسلم- البكر، منْ مال الصدقة:
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختلف أرباب التأويل فِي استسلاف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هَذَا البكر، وقضائه عنه منْ مال الصدقة، هل كَانَ ذلك السلف لنفسه، أو لغيره؟، فمنهم منْ قَالَ: كَانَ لنفسه، وكان هَذَا قبل أن تحرم عليه الصدقة. وهذا فاسدٌ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم تزل الصدقة محرّمة عليه، منذ قدُوم المدينة، وكان ذلك منْ خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، ومن جملة علاماته المذكورة فِي الكتب المتقدّمة، بدليل قصّة سلمان الفارسيّ -رضي الله عنه-، فإنه عند قدوم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة، جاءه سلمان بتمر، فقدّمه إليه، وَقَالَ: كل، فَقَالَ:"ما هَذَا؟ "، فَقَالَ: صدقةٌ، فَقَالَ لأصحابه:"كلوا"، ولم يأكل، وأتاه يومًا آخر بتمر، وَقَالَ: هديّة، فأكل، فَقَالَ سلمان -رضي الله عنه-: هذه واحدة، ثم رأى خاتم النبوّة، فأسلم، وهذا واضح.
وقيل: استسلفه لغيره، ممن يستحقّ أخذ الصدقة، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها، وَقَدْ استُبعد هَذَا منْ حيث إنه قضاه أزيد منْ القرض منْ مال الصدقة، وَقَالَ:"إخيركم أحسنكم قضاء"، فكيف يُعطي زيادة منْ مال ليس له، ويجعل ذلك منْ باب