للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

حسن القضاء؟. وأجيب عن هَذَا بأنه قيل: كَانَ الذي استقرض منه منْ أهل الصدقة، فدفع الرباعي بوجهين: بوجه القرض، وبوجه الاستحقاق.

وقيل: وجه ثالثٌ، وهو أحسنها -إن شاء الله تعالى-، وهو أن يكون استقرض البكر عَلَى ذمّته، فدفعه لمستحقّ، فكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة، أخذ منها بما هو غارمٌ جملاً رباعيًا، فدفعه فيما كَانَ غارمًا، فكان أداءً عما فِي ذمّته، وحسن قضاء بما يملكه، وهذا كما رُوي أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر ابن عمر أن يجهّز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ عَلَى قلائد الصدقة، فظاهره أنه أخذ عَلَى ذمّته، فبقي أن يقال: كيف يجوز له أن يؤدّي دينه، ويُبرىء ذمّته مما لا يجوز له أخذه؟.

ويُجاب عنه بأنه لَمّا لم يأخذ لنفسه صار بمنزلة منْ ضمنه فِي ذمّته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجىء منْ إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرضه منْ ماله. انتهى "المفهم" ٤/ ٥٠٦ - ٥٠٧. قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الجواب الذي قبل هَذَا الثالث، وهو ما تقدّم فِي قوله: وقيل: استسلفه لغيره الخ" أظهر منْ هَذَا، وأقرب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فيما قيل فِي حكمة شغله -صلى الله عليه وسلم- ذمّته بدين:

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قيل]: كيف شَغَل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذمّته بدين، وَقَدْ قَالَ: "إياكم والدين، فإنه شينٌ، الدين همّ بالليل، ومذلّةٌ بالنهار" (١) وَقَدْ كَانَ كثيرًا ما يتعوّذ منه، حَتَّى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ منْ المغرم؟ فَقَالَ: "إن الرجل إذا غَرِم، حدّث، فكذب، ووعد، فأخلف" متّفقٌ عليه.

ولا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك فِي ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، كما رواه الترمذيّ، منْ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، وحسّنه، ومن كانت هذه حاله لم يكن فِي ضرورة، ولا حاجة، ولذلك قَالَ الله تعالى له: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: ٨].

قَالَ القرطبيّ: أما الأخذ بالدين عند الحاجة، وقصد الأداء عند الوجدان، فلا يُختلف فِي جوازه، وَقَدْ يجب فِي بعض الأوقات عند الضرورات المتعيّنة. وأما النهي عن أخذه -إن صحّ- فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة؛ لما يطرأ منْ تحمّله منْ الأمور التي ذكرتها، منْ الإذلال، والمطالبة، وما يُخاف منْ الكذب فِي الْحَدِيث، والإخلاف


(١) رواه البيهقيّ فِي "شعب الإيمان" (٥٥٥٤) دون قوله: "فإنه شين"، ورواه مالك فِي "الموطّأ" ٢/ ٧٧٠ بلفظ: "إياكم والدين، فإن أوله هَمٌّ، وآخره حَرْبٌ".