للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وباعوها، وأكلوا أثمانها"، و"جملوها": يعني أذابوها، وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدُث لها اسم آخر، وهو الودَكُ، وذلك لا يفيد الحلّ، فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لا تتبدّل بتبدّل الاسم، وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدّل الاسم بصورة البيع، كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضحٌ بحمد الله.

وأيضًا، فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم منْ وقف مع صورة العقود والألفاظ، دون مقاصدها، وحقائقها أن لا يحرّم ذلك؛ لأن الله تعالى لم ينصّ عَلَى تحريم الثمن، وإنما حرّم عليهم نفس الشحم، ولَمّا لعنهم عَلَى استحلالهم الثمن، وإن لم ينصّ عَلَى تحريمه، دلّ عَلَى أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين، ولا ببدلها.

ونظير هَذَا أن يقال: لا تقرب مال اليتيم، فتبيعه، وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر، فتغيّر اسمه، وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة، فتعقد عليها عقد إجارة، وتقول: إنما أستوفي منافعها، وأمثال ذلك.

قالوا: ولهذا الأصل، وهو تحريم الحيل المتضمّنة إباحة ما حرّم الله، أو إسقاط ما أوجبه الله عليه أكثر منْ مائة دليل، وَقَدْ ثبت أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لعن المحلّل، والمحلّل له"، مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح؛ لما كَانَ مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح، وَقَدْ ثبت عن الصحابة أنهم سمّوه زانيًا, ولم ينظروا إلى صورة العقد.

[الدليل الثاني]: عَلَى تحريم العينة: ما رواه أحمد فِي "مسنده": حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر هو ابن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قَالَ: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا ضَنّ النَّاس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد فِي سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه عنهم حَتَّى يُراجعوا دينهم" (١)، ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شُريح المصريّ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراسانيّ، أنّ عطاء الخراسانيّ حدّثه، أن نافعا حدّثه، عن ابن عمر، قَالَ: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول- فذكره، وهذان إسنادان حسنان، يشدّ أحدهما الآخر، فأما رجال الأول، فأئمة مشاهير، وإنما يُخاف أن لا يكون الأعمش سمعه منْ عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه منْ ابن عمر. والإسناد الثاني


(١) قَالَ فِي "الجوهر النقيّ" ٥/ ٣١٦ - ٣١٧ - : صححه ابن القطّان، وَقَالَ: هَذَا الإسناد كل رجاله ثقات. كذا قَالَ فِي النسخة "بلاء"، وأُراه مصحّفًا منْ "ذُلّا". اهـ