ووقع فِي رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، مرسلا: "أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض البائع منْ ثمنه شيئا، فوجده بعينه، فهو أحق به"، فمفهومه أنه إذا قَبَضَ منْ ثمنه شيئا، كَانَ أسوة الغرماء، وبه صرح ابن شهاب فيما رواه عبد الرزاق، عن معمر عنه، وهذا وإن كَانَ مرسلا، فقد وصله عبد الرزاق، فِي "مصنفه" عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهريّ، وَقَدْ وصله الزُّبَيْدِيُّ، عن الزهريّ، أخرجه أبو داود، وابن خزيمة، وابن الجارود، ولابن أبي شيبة، عن عمر بن عبد العزيز، أحد رواة هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه أحق به منْ الغرماء، إلا أن يكون اقتضى منْ ماله شيئا، فهو أسوة الغرماء"، وإليه يشير اختيار البخاريّ؛ لاستشهاده بأثر عثمان -رضي الله عنه-، حيث قَالَ: وَقَالَ ابن المسيّب: قضى عثمان منْ اقتضى منْ حقّه قبل أن يُفلس، فهو له، ومن عَرَف متاعه بعينه، فهو أحقّ به، وكذلك رواه عبد الرزاق، عن طاوس، وعطاء صحيحا، وبذلك قَالَ جمهور منْ أخذ بعموم حديث الباب، إلا أن للشافعي قولاً، هو الراجح فِي مذهبه: أن لا فرق بين تغير السلعة أو بقائها, ولا بين قبض بعض ثمنها، أو عدم قبض شيء منه، عَلَى التفاصيل المشروحة فِي كتب الفروع. انتهى "فتح" ٥/ ٣٤٤.
(فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) أي بذلك الموجود عند المفلس، وذكّره مع كون مرجع الضمير السلعةَ؛ لتأويها بالموجود، كما قدّرته آنفًا (مِنْ غَيْرِهِ) أي منْ سائر الغرماء، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي يجوز له أن يأخذه بعينه، ولا يكون مشتركًا بينه وبين سائر الغرماء، وبهذا يقول الجمهور، خلافًا للحنفيّة، فقالوا: إنه كالغرماء؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: ٢٨٠]. ويحملون الْحَدِيث عَلَى ما إذا أخذه عَلَى سوم الشراء مثلاً، أو عَلَى البيع بشرط الخيار للبائع، أي إذا كَانَ الخيار للبائع، والمشتري مُفلسٌ، فالأنسب أن يختار الفسخ، وهو تأويل بعيد. وقولهم: إن الله تعالى لم يشرع للدائن عند الإفلاس إلا الانتظار. فجوابه أن الانتظار فيما لا يوجد عند المفلس، ولا كلام فيه، وإنما الكلام فيما وُجد عند المفلس، ولابُدّ أن الدائنين يأخذون ذلك الموجود عنده، والحديث يُبيّن أن الذي يأخذ هَذَا الموجود هو صاحب المتاع، ولا يُجعل مقسومًا بين تمام الدائنين، وهذا لا يُخالف القرآن، ولا يقتضي القرآن خلافه. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" ٧/ ٣١١ - ٣١٢.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا منْ السنديّ رحمه الله تعالي غاية الإنصاف، حيث لم يتكلّف فِي ترجيح مذهبه بما فيه تعسّفٌ، كما يفعل جُلّ الحنفيّة، ولاسيّما