للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الكفالة بالنفس:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الكفالة بالنفس صحيحة، وهو مذهب شريح، ومالك، والثوري، والليث، وأبي حنيفة. وَقَالَ الشافعيّ فِي بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة، واختلف أصحابه، فمنهم: منْ قَالَ: هي صحيحة قولا واحدا، وإنما أراد أنها ضعيفة فِي القياس، وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر، ومنهم: منْ قَالَ: فيها قولان: أحدهما: أنها غير صحيحة؛ لأنها كفالة بعين، فلم تصح، كالكفالة بالوجه، وبدن الشاهدين.

واحتجّ الأولون بقول الله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} الآية [يوسف: ٦٦]، ولأن ما وجب تسليمه بعقد، وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال.

إذا ثبت هَذَا، فإنه متى تعذر عَلَى الكفيل إحضار المكفول به مع حياته، وامتنع منْ إحضاره لزمه ما عليه، وَقَالَ أكثرهم: لا يغرم، والصحيح الأول؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الزعيم غارم"، وهو حديث صحيح، كما تقدّم؛ ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب بها الغرم، كالكفالة بالمال (١). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: اختلفوا فِي الكفالة ببدن منْ عليه حدٌّ، سواء كَانَ حقا لله تعالى، كحد الزنا، والسرقة، أو لآدمي، كحد القذف والقصاص، فذهب أحمد، إلى عدم صحته، قَالَ الموفّق: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم: شريح، والحسن، وبه قَالَ إسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وبه قَالَ الشافعيّ فِي حدود الله تعالى، واختَلَف قوله فِي حدود الآدمي، فَقَالَ فِي موضع: لا كفالة فِي حدود الآدمي، ولا لعان، وَقَالَ فِي موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق، أو حدّ؛ لأنه حق لآدمي، فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين.

واحتجّ الأولون بما أخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنه قَالَ: "لا كفالة فِي حد"، ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه، كحدود الله تعالى؛ ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها عَلَى الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه منْ الكفيل، إذا تعذر عليه إحضار المكفول به، فلم تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا. قاله فِي "المغني" ٧/ ٩٨ - ٩٩.


(١) راجع "المغني" ٧/ ٩٦ - ٩٧.